فهذه ثلاثة أسئلة مع أجوبتها تضع الملامح الرئيسية على أطروحة خفاء العنوان .
وسيأتي لها العديد من الإيضاحات والتطبيقات في الفصول الآتية .
وعرفنا أيضاً كيف تتبرهن هذه الأطروحة في مقابل الأطورحة الأولى ، من حيث أن
باستطاعة الإمام المهدي (ع) أن يحتجب عن الناس بكشل طبيعي لا إعجاز فيه ، ما لم
يتوقف احتجابه على الإعجاز ، طبقاً لقانون المعجزات . وإذا تمّ ذلك يكون الالتزام
باختفائه الشخصي الدائم ، بالمعجزة ، منفياً بهذا القانون ، وينبغي تأويل أو نفي
كل خبر دال عليه .
كما أن هذه الأطروحة الثانية ، هي التي تنسجم مع التصورات العامة التي اتخذناها
في فهم الأسلوب العام لحياة الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى .
ونود أن نشير في خاتمة هذه الأطروحة إلى نقاط ثلاث :
النقطة الأولى :
أننا إذ نعرف أن المهدي (ع) متى استطاع الاحتجاب بشكل طبيعي ، فإن المعجزة لا
تساهم في احتجابه ... لا نستطيع – على البعد – مقتضيات الظروف والأحوال التي يمر
بها المهدي (ع) في كل مقابلة . وهل كان بإمكانه أن يختفي بشكل طبيعي ، أو يتعين
عليه الاختفاء الإعجازي .
فمثلاً : إن لاختفائه بعد مقابلته لجعفر الكذاب مرتين ، احتمالين ، هما اختفاؤه
الشخصي أو اختفاؤه الطبيعي ، بحسب الظروف التي كان يعيشها المهدي (ع) يومئذ .
وأما بدء هذه المقابلة فلا حاجة إلى افتراض كونه إعجازياً ، بأي حال ، كما ذهب
إليه رونلدسن(1) ، بل يمكن أن يكون طبيعياً اعتيادياً .
وعلى أي حال ، فبعض الروايات ، يمكنها أن تعطينا الظرف الذي تنتهي به المقابلة .
حيث يتضح من بعضها إمكان الاحتجاب الطبيعي ، كما سبق أن مثلنا .بينما يتضح من بعضها تعيّن الاحتجاب الإعجازي أحياناً ، كما ستسمع في مستقبل هذا
التاريخ .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر عقيدة الشيعة ، ص 237 .
صفحة (41)
النقطة الثانية :
في
الإلماع إلى الأنحاء المتصور لما يحصل بالمعجزة من أثر يوجب اختفاء الجسم على
الناظر ، بالرغم من اقتضاء القوانين الكونية لحصول الرؤية .
فنقول : إن المعجزة أما أن تتصرف في الرائي أو في المرئي . فتصرفها في الرائي هو
جعله بنحو يعجز عن إدراك الواقع الذي أمامه . فيرى المكان خالياً عن الإمام
المهدي (ع) مع أنه موجود فيه بالفعل . فلو تعين بحسب المصلحة الملزمة والغرض
الإلهي ، أن يراه شخص دون شخص ، كان نظر من يراه اعتيادياً، ونظر من لا يراه
محجوباً بالمعجزة . وكذلك أيضاً التصرف في الحواس الأخرى كالسمع واللمس وغيرها ،
وقد تحتجب بعض حواس الفرد دون بعض ، فيسمع صوت المهدي (ع) من دون أن يراه(1)
.
وفرق الأطروحتين الرئيسيتين بالنسبة إلى الإعجاز الإلهي هو : أن الأطروحة الأولى
ترى أن هذا الإعجاز هو الأمر الاعتيادي الدائم والثابت لكل الناس ، بالنسبة إلى
حياة المهدي (ع) حال غيبته الكبرى . وإنما تحتاج مقابلته إلى استثناء عن هذا
الدوام . على حين ترى الأطروحة الثانية أن الأمر الاعتيادي الدائم هو انكشاف جسم
المهدي (ع) للناس وإمكان معاشرته معهم . ويحتاج اختفاء شخصه إلى استثناء لا يحدث
إلا عند توقف حفظ الإمام المهدي (ع) عليه . وأما تصرف المعجزة في المرئي أي
الواقع الموضوعي القابل للرؤية . فأوضح طريق لذلك هو أن تحول المعجزة دون وصول
الصورة النورية الصادرة عن جسم المهدي (ع) أو ذبذباته الصوتية ، وغير ذلك مما
تتقبله الحواس الخمس ... تحول دون وصولها إلى الرائي أو السامع . ومعه يكون الفرد
عاجزاً أيضاً عن الإحساس بالواقع الموضوعي الذي أمامه . وهناك أكثر من نحو واحد ،
متصور للمعجزة في محل الكلام ، وهي تحتاج إلى بحث فلسفي وفيزياوي مطول ، فيكون
الأحجى أن تضرب عنه صفحاً تحاشياً للتطويل .
ــــــــــــــــــ
(1) البحار ، جـ 3 ، ص 146 .
صفحة (42)
النقطة الثالثة :
أنه ساعد الإمام المهدي (ع) في غيبته عوامل نفسية أربعة متحققة لدى الناس على
اختلاف نحلهم واتجاهاتهم ، مما جعل عليهم من الممتنع التصدي للبحث عنه لأجل
الاستفادة منه أو التنكيل به .
العامل الأول :
الجهل بشكله وهيئة جسمه جهلاً تاماً . وهو عامل مشترك بين أعدائه ومحبيه .
العامل الثاني :
إنكاره من قبل غير قواعده الشعبية بما فيهم سائل الحكام الظالمين الذي يمثل
المهدي رمز الثورة عليهم وإزالة نظمهم من الوجود . فهم في إنكارهم له مرتاحين عن
مطاردته ، وهو مرتاح من مطاردتهم .
العامل الثالث :
ارتكاز صحة الأطروحة الأولى عند عدد من قواعده الشعبية ، أخذاً بظواهر
الأخبار التي سمعناها . إذ مع صحتها لا يكون هناك سبيل إلى معرفته بل يستحيل
الإحساس بوجوده ، إلا عن طريق المعجزه ، وهي لا تتحقق إلا للأوحدي من الناس .
العامل الرابع :
الإيمان بعناية الله تعالى له وحفظه ليومه الموعود . فمتى تعلَّقت المصلحة
بالمقابلة مع المهدي (ع) كان هو الذي يريدها . ومتى لم تتعلق بها المصلحة ،
فالأصلح للإسلام والمسلمين ألا تتم المقابلة وإن تحرَّق الفرد المؤمن إليها شوقاً
. ومن هنا يكون الفرد الاعتيادي في حالة يأس من مقابلته والتعرف إليه .
صفحة (43)
|