الناحية الثالثة :

إن جملة من هذه الروايات ، يحتمل – على أقل تقدير – أن تكون قد وضعت بعد حدوث الحوادث ، ونسبت إلى قائل سابق على الحدوث . ومعه قد يجدها الفرد الباحث مطابقة للواقع ، مع أنها مكذوبة . ومن الطبيعي أن يكون شعور الكاذب بمطابقة روايته للواقع ما يهوّن لديه خوف الافتضاح إلى حد كبير .

الأمر الثاني :

النقل بالمعنى . وهذا ليس محتملاً فحسب ، بل هو معلوم التحقق في كثير من الأخبار .

والنقل بالمعنى ، لا يكاد يكون مضراً في الروايات الاعتيادية ، كالروايات المتعرضة إلى الفقة والفلسفة ... فإن اللفظ أو مرادفه ، والجملة ومثيلتها ، يعطيان معنى متشابهاً إلى حد كبير ... واحتمال اختلاف المعنى يكون ملغى ومدفوعاً إذا كان الراوي معلوم الضبط والوثاقة .

وأما في روايات التنبؤ بالمستقبل ، فليس الأمر فيها على هذا الغرار . فأنها تصدر في الأعم الأغلب عن قائلها : النبي (ص) أو غيره رمزية غير واضحة المعنى ، بحيث يحتاج فهمها إلى تدقيق . ومن المعلوم أن التعبير عن اللفظ الرامز بلفظ آخر يمسخه مسخاً ويغير معناه تغييراً كلياً أو يكاد .

وهذا الاحتمال لا يدفعه العلم بالوثاقة والضبط في الراوي ، بعد جواز النقل بالمعنى شرعاً ، واحتمال عدم فهم الراوي للمعنى المرموز إليه ، كي يختار المرادف الصحيح لألفاظ الراوية .

الأمر الثالث :

احتمال الإسقاط من ألفاظ الرواية في أثناء تناقلها من قبل الرواة .

فإن القواعد العامة في سائر الروايات ، تقتضي إلغاء هذا الاحتمال ، باستظهار كون الراوي ناقلاً لجميع الألفاظ ، أو لجميع ما يتعلق بالمضمون الواحد من قرائن وخصوصيات . إذا كان الراوي ثقة ، إذ لو كان قد أسقط بعض ذلك لكان قد أخل بنقله وبوثاقته في نهاية المطاف . ومعه تكون وثاقته دليلاً على أنه نقل إلينا كل ما يتعلق بالمضمون المعطى في الرواية .

صفحة (178)

إلا أن ذلك ليس بذي فائدة في روايات التنبؤ بالمستقبل ، وذلك من ناحيتين :

الناحية الأولى :

إذا احتملنا وجود قرينة لفظية أو غيرها ، لم يفهم الراوي كونها قرينة مغيرة للمعنى أو مؤثرة فيه ، فحذفها . والراوي الثقة إنما يتعهد نقل ما يفهم تأثيره من القرائن بطبيعة الحال ، دون غيرها . ومعه لا تكون وثاقة الراوي نافية لهذا الاحتمال .

ومثل هذا الاحتمال ، لا يكاد يكون موجوداً في الروايات الاعتيادية ولكنه موجود بكل وضوح في الروايات الرمزية ، التي قد تخفى معاني ألفاظها ، فضلاً عن قرائنها الدقيقة .

الناحية الثانية :

إذا احتملنا أن الرواية كانت متضمنة لنقل أكثر نم حادثة واحدة ، واحتملنا أن نقل الحادثتين معاً ، له تأثير في الفهم الدقيق والصحيح لإحداهما أو لكليهما . في حين لم تكن الرواية التي وصلتنا حاوية إلا لحادثة واحدة .

وهذا الاحتمال لا يمكن إلغاؤه بالعلم بوثاقة الراوي ، فإن غاية ما يتعهد به الراوي الثقة هو أن ينقل كل ما له ارتباط بالمضمون الواحد ، وأما إذا كان الإمام (ع) أو النبي (ص) قد أعرب عن مضمونين ، فقد يختار الراوي نقل أحدهما دون الآخر ، ولا يكون في ذلك اختلال في وثاقته .

واحتمال أن يكون لنقل المضمونين أو الحادثتين معاً دخلاً في المعنى ... غير موجود عادة في سائر الرويات . ولكنه موجود في الروايات التي نحن بصددها ... بل هو ليس احتمالاً فقط ، وغنما نحن نعلم بذلك لعدة أسباب ، أهمها : أننا نحتاج في بحثنا إلى الربط بين الحوادث وتشخيص تسلسلها الزمني ، ومعرفة اتجاهات أصحابها ، ومعرفة التخطيط الإلهي الذي يقتضي كلا منها . فإذا اطلعنا على الحادثة وحدها لم يكن إلى فهم شيء من ذلك سبيل . وأما إذا اطلعنا عليها منضمة إلى غيرها ، أمكننا أن نتوصل إلى ذلك .

صفحة (179)

إذن فلا بد  لنا أن نضع منهجاً لتمحيص هذه الجهات السندية وتذليل مصاعبها ، وذلك ما سنعرضه فيما يلي :

منهج التمحيص السندي :

وهو يتضمن جانبين : جانب إيجابي وجانب سلبي ، فالجانب الإيجابي يقتضي بالأخذ ببعض الروايات والجانب السلبي يقتضي رفض الأخذ بالبعض الآخر منها .

أما الجانب الإيجابي ، فهو الأخذ من الروايات بوقوع الحادثة وصحة النقل . وبكل مضمون مستفيض لفظاً أو معناً ، بحيث يوجب الاطمئنان من تجمع الروايات بصحة النقل ووقوع الحادثة . وبكل مضمون اقترنت به القرائن العامة أو الخاصة ، التي توجب العلم أو الاطمئنان بالصدق . وهذا يستدعي – في كثير من الأحيان – تجميع العديد من الروايات والقرائن على صحة مطلب أو وقوع واقعة .

وهذا ما سنعمله في ما يلي من هذا التاريخ .

وأما الجانب السلبي : فيتلخص بضرورة رفض كل رواية لم تكن من ذاك القبيل ، وإن كانت مما يؤخذ بها عادة بحسب الموازين العامة في سائر الروايات ، كما لو كانت الرواية ذات سند موثوق ... فإننا لا نقبلها ما لم تقم القرائن على صحتها أو تؤيدها غيرها من الروايات .

وبهذا التشدد السندي نستطيع أن نتلافى كل الصعوبات السابقة . إذ مع العلم أو الاطمئنان بصدق المضمون، لا يبقى لاحتمال الوضع أثر ، كما لا يبقى لاحتمال النقيصة في المعنى أو اللفظ أو لاحتمال تغير المعنى عند تغير اللفظ ، أي أثر . فإن كل ذلك إنما هو حديث عن رواية واحدة لو لوحظت باستقلالها ، وأما لو انضمت إلى غيرها فلا معنى لهذا الاحتمال .

كما أن هذا الانضمام يرفع الناحية الأخيرة التي أشرنا إليها ، وهو الجهل بترابط الحوادث . فإن الانضمام يجعلنا عالمين بهذا الترابط كما هو واضح .

صفحة (180)

النقطة الثانية :

من مصاعب هذه الروايات : مصاعب الدلالة .

تتصف روايات التنبؤ بحوادث المستقبل ، بشكل عام ، بصعوبات في الدلالة والمضمون ، بعد الغض عن السند ... تلك الصعوبات الناشئة من عدة مناشئ رئيسية ، يحتمل وجود واحد منها أو أكثر في كل رواية مروية في هذا الصدد ،على ما سنرى .

وينبغي أن نتحدث أولاً ، عن السبب الذي أوجب صدور هذه الروايات عن قائليها بشكل رمزي صعب الفهم إلى حد كبير . ثم نتحدث ثانياً عن أسباب الصعوبة بالنسبة إلى فهمنا الخاص بعد أن تكون الروايات قد وصلت إلينا . ومن هنا يقع الحديث في ناحيتين :

الناحية الأولى :

في التحدث عن الأسباب التي دعت النبي (ص) والأئمة (ع) للتكلم عن حوادث المستقبل بشكل أقرب إلى الغموض والإبهام . وترك السير – بتعمد واضح – في طريق التوضيح والتفصيل .

وما يمكن أن نتصوره من أسباب ذلك ، بحسب ما نستطيع تشخيصه الآن ، يمكن إيراده ضمن عدة أمور :

الأمر الأول :

قانون : خاطب الناس على قدر عقولهم .. هذا القانون الذي سبق أن ذكرنا إنه عرفي وصحيح ، وقد مشى عليه النبي (ص) والأئمة (ع) في سائر كلماتهم .

فلئن كان النبي (ص) أو الإمام (ع) على مستوى إدراك الواقع التاريخي المتحقق بعد ألف عام أو عدة آلاف من السنين ، بحيث يرى المستقبل ببعد نظره وتوفيق ربه ، كما يرى الحاضر .. فإن البشر لم يكونوا في أي عصر من العصور على هذا المستوى من الفهم على الإطلاق . وغاية ما نرى الحكومات الحاضرة على كثرة مفكريها ودقة سياساتها ،إنها تستطيع أن تخطط لخمس سنوات أو عشر سنوات ، على نحو محتمل غير مضمون التطبيق الكامل، في الأغلب .

صفحة (181)

وأما التخطيط وبعد النظر إلى مئات وآلاف السنين ، فهو خاص بالله عز وجل ومن ارتضى من رسول ومن علمه الرسول (ص) من هذا العلم . وهو علم ضروري للأئمة المعصومين (ع) ، كي يستطيعوا أن يأخذوا بالتخطيط الإلهي إلى حيز التنفيذ ، كما سمعنا طرفاً منه ، وسنسمع طرفه الآخر فيما يأتي وعلى أي حال ، فالناس قاصرون دائماً عن إدراك مثل هذا العلم وتقبل مثل هذه الأخبار ، إذن فلا بد للإمام أخذاً بقانون التفاهم العرفي أن يببرز للناس من الحقيقة ما لا ينافر أفهامهم وما يتناسب مع واقع حياتهم . وحيث أن الواقع المعبر عنه ، أوسع وأعمق مما يستطيعون فهمه ، إذن فلا بد من اللجوء إلى الرمز والغموض في التعبير ، حفظاً لمستوى التفاهم العام .

الأمر الثاني :

إن هناك مصلحة مهمة في جعل الفرد المسلم منتظراً لظهور المهدي (ع) في كل حين ، ومستعداً نفسياً لتلقي هذا النبأ الكبير ... ومن المعلوم أن النبي (ص) أو الإمام (ع) ، لو أخبر عن الحوادث بشكل واضح ومفصل ، فإن هذا الجو النفسي يتغير إلى حد كبير . فإن الناس سوف يصبحون عالمين بعدم قيام المهدي (ع) وظهوره ما دامت تلك الحوادث لم تحدث .

وينحصر المحافظة على مستوى الانتظار المطلوب ، إذا كان الأخبار بالحوادث مشوباً بالغموض والتعميم وإهمال تحديد التاريخ . بحيث يحتمل حدوث الحادثة الموعودة في أي عصر ، فيحتمل حينئذٍ ظهور المهدي (ع) بعدها في ذلك العصر .

الأمر الثالث :

إننا نحتمل – على الاقل – أن الحوادث لو كانت قد عرضت مفصلة ، لأوجبت فشل التخطيط الإلهي للإعداد لظهور المهدي (ع) ، لإمكان استغلال المستغلين لها قبل حدوثها ، وإمكان تلافي ما يتوقع أن تنتجه من الظلم ، واستدرار ما يمكن أن تدره من ربح . وهذا ليس فيه مصلحة . بل إنما يكون التخطيط ناجحاً إذا جاءت الحادثة عفوية وعلى طبق التطور الطبيعي للتاريخ .

إذن فالإغماض عند عرض الحوادث ، يعتبر مشاركة فعلية من قبل النبي (ص) والإمام (ع) في إنجاح المخطط الإلهي ، لإيجاد شرائط الظهور .

صفحة (182)

الأمر الرابع :

إن النبي (ص) أو الإمام (ع) إنما يذكر بعض حوادث المستقبل لمحل الاستشهاد أوعبرة أو موعظة أو نحو ذلك . إذن فلا بد له أن يقتصر على المقدار الذي يوفي المطلوب ،  ويكون من المستهجن – عادة – الاستمرار في سرد تفاصيل الحوادث أكثر من ذلك . شأنه شأن القرآن الكريم نفسه ، الذي اقتصر من تفاصيل القصص على موضع العبرة ومورد التربية للسامعين ، وترك سائر التفاصيل . فكذلك الحال بالنسبة إلى النبي (ص) أو الإمام (ع) حين يعرب عن حادثة من حوادث المستقبل .

يستثنى من هذا الوجه ، الروايات التي تكون بصدد بيان حوادث المستقبل مباشرة كذكر أشراط الساعة أو علامات الظهور . فإن لا يكون من المستهجن في مثلها الاستمرار في بيان الحوادث . ومعه يكون الغموض مستنداً إلى الوجوه الأخرى .

الأمر الخامس :

أمر فلسفي عقائدي ، يعود إلى النبي (ص) أو الإمام (ع) بأن يخبر بما لا يدخله المحو والإثبات ، ويهمل ما يحتمل أن يدخله ذلك ، لاحتمال ظهور عدم مطابقته للواقع .. على تفصيل وتحقيق ليس له مجال في المقام.

فإذا عرفنا هذه الأسباب الرئيسية للغموض والإجمال في مداليل الروايات التي نتكلم عنها .. نستطيع أن ندخل ، ونحن على بينة من أمرنا ، في البحث عن تشخيص المناشئ الرئيسية اللفظية او المعنوية للغموض ، لكي نعود بعدها إلى تشخيص ما يمكن أن يكون ميزاناً لتلافي هذه المناشئ ، والخروج عن مصاعبها ، وفهم الروايات فهماً مستقيماً صحيحاً .

مناشئ الغموض :

ويمكن عرض أهم هذه المناشئ ، فيما يلي :

المنشأ الأول :

الرمزية . والمراد بها استعمال المعنى التركيبي أو الجملي ، وإرادة معنى آخر ، غير ما يفصح عنه اللفظ بوضوح.

وهذا هو الذي يميز الرمز عن الكناية والمجاز ، فإنها لا تكون إلا في مفردات الألفاظ أو النسب الكلامية ، بخلاف الرمز فإنه يكون – عادة – في الجمل التركيبية .

صفحة (183)

ومن هنا يمكن أن يكتب الفرد صفحة أو عدة صفحات من الكلام ذات معان معينة ، ولكن لا يريد الكاتب أي واحد من المعاني على التحديد ، وإنما يرمز بها إلى معان أخرى ، لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق قرائن خاصة أو قرائن عامة متفق عليها .

وهذا النحو من الرمز وجد في الكلام العربي القديم . وهو شائع في هذه العصر في الأدب ، وخاصة في مدرسة (الشعر الحر) . وهو الذي يفسر لنا عدداً من موارد الغموض في تلك الروايات .

مثاله : التعبير في الروايات بمثل قوله : تفقأ عين الدنيا أو قوله : تخرج من اليمن نار تضيء لها أعناق الأبل في بصري . فإن كل ذلك ليس على وجه الحقيقة ، وإنما هو رمز عن حوادث أو حركات تاريخية معينة لإيراد التصريح بها أو عرضها بشكل تفصيلي .

ومن المؤسف أن الناس حين غفلوا عن هذا المنشأ ، حملوا مثل هذه التعبيرات على معانيها المباشرة الحقيقية . وبعدها انقسموا إلى قسمين : فهناك من الناس من يصدق بما يسمعه ويفهمه من هذه الروايات ، ويحملها على المعجزات وخوارق العادات وإن كان يجهل مناشئها ومصالحها . وهناك من الناس من هو مكذب لهذه المعاني ساخط عليها ، بل على كل روايات التنبؤ بالمستقبل .

مع إن كلا المسلكين ، مما لا حاجة إلى الالتزام به . إما المسلك الأول : فلأن المعجزات لا تكون إلا بقانون – كما سبق أن عرفنا – فلا بد من تطبيق الروايات عليه ، قبل الالتزام بمضمونها جملة وتفصيلاً . على إننا لا يمكن أن نحمل مضمون الرواية على المعجزة ما لم نتأكد من فهمها أولاً . وقد عرفنا إنه من المحتمل – على أقل تقدير – أن يراد بها معان أخرى غير ما هو ظاهرها ، وقد يكون ذلك معنى لا يمت إلى المعجزة بصلة . ولعل استبعاد الفهم الإعجازي في عدد من الحالات ، يكون قرينة على الرمزية ، وإمكان حملها على ذلك .

صفحة (184)