المستوى الثاني :

إحراز الخير لأمته ، باعتبار أنه إذ يعد نفسه الاعداد الصالح ، فانه يشارك في تهيئة شرط اليوم الموعود ، بمقدار تكليفه وقدرته ، فيكون قد تسبب إلى الخير كل الخير لأمته .

المستوى الثالث :

إحراء الخير لا لأمته فحسب ، بل للبشرية جمعاء .  فان الخير الناتج من إيجاد شرط الظهور ، عام لكل البشر ، والمشاركة في إيجاده مشاركة في إيجاد العدل الكامل السائد في اليوم الموعود .

وهذه المستويات الثلاثة ، مما تقتضيه العقائد الاسلامية العامة المشتركة بين سائر المذاهب ... بل مما يقضيه الاعتراف باليوم الموعود ، في أي دين من الأديان .

المستوى الرابع :

إن الفرد بمساهمته في  إيجاد شرط الظهور ، يساهم في إرضاء إمامه المهدي (ع) وجلب الراحة إليه ... بالنسبة إلى الشعور بزيادة المؤمنين وقلة العاصين ، والمشاركة الحقيقية في الإعداد للهدف الكبير .

وهذا المستوى خاص بالأطروحة الامامية لفهم المهدي (ع) .

فهذه هي الجهات الأساسية التي يجب أن يتخذها الفرد ، لكي يكون على المستوى الاسلامي المطلوب للانتظار .

                                                *  * *

النقطة الثالثة :

في حث فكرة المهدي (ع) على العمل .

صفحة (295)

اتضح مما ذكرناه في النقطتين الاسبقتين ، وغيرهما ، ما هو الحق في الجواب على الشبهة القائلة : بأن انتظار الإمام المهدي (ع) سبب للتكاسل عن الاصلاح وترك العمل الاجتماعي ، وعدم معارضة الظلم والظالمين ، اعتماداً على اليوم الموعود والاصلاح المنشود .

أو انطلاقاً من الاعتقاد بأن المهدي (ع) لا يظهر حتى تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً ، إذن فيجب الظلم والجور وترك العمل استعجالاً لظهور المهدي (ع) .

ويتم النظر في جواب هذه الشبهة على مستويات ثلاثة ، باعتبار أن الأوساط التي تمر هذه الفكرة بين ظهرانيهم على ثلاثة أقسام رئيسية ، تتخذ عند كل واحد منهم طابعاً معيناً ، ونتيجة خاصة تختلف عن الآخرين .

المستوى الأول :

أوساط المنكرين للمهدي (ع) على الأساس المادي ، أو ما يمت إليه بصلة .

أولئك الذي لا يجدون دليلاً على مدعاهم إلا بمجرد الاستبعاد والتشكيك ، فهم يحاولون ان يقنعوا أنفسهم بما يدعون ولعلهم يستطيعون إبعاد المهدويين عن مهدويتهم وتشكيكهم في معتقدهم !!.

ليت شعري : أن المادية سبق أن قالت : بأن الدين أفيون الشعوب ومخدرها .

فكيف بالاعتقاد بالمهدي الذي هو بعض فروعه .

وقد أجاب الالهيون : - ومعهم الحق – بأن الدين كان ولا يزال أساس الثورات والمعارضات والمطالبة بإقامة الحق والعدل على مدى التاريخ ، وأكبر مثير للعواطف الانسانية على طول الخط .  ونظرة واحدة إلى تاريخ البشرية مع شيء من الموضوعية والتجرد تثبت ذلك .  وقد قلنا وسنقول في العقيدة المهدوية مثل ذلك على سيأتي عن قريب .

المستوى الثاني :

أوساط المؤمنين بالمهدي (ع) الذين يتصفون بصفتين مهمتين :

الأولى : التقاعس عن العمل أساساً ، وتقديم المصلحة الخاصة على المصالح العامة عموماً .

صفحة (296)

الثانية : إن المفاهيم الاسلامية تنطبع في أذهانهم بشكل ناقص وخاطئ ، بشكل تصلح تبريراً للواقع الفاسد ، أكثر من أي شيء آخر . وتنطلق الشهبة في هذه الأوساط من الاعتقاد الذي ذكرناه بأن المهدي (ع) لا يظهر حتى تمتلئ الأرض جوراً وظلماً ، كما ورد في الحديث المتواتر عن النبي (ص) ، إذن يفهمون من ذلك : أنه يجب توفير الظلم والجور ، وترك العمل ضده ، استعجالاً لظهور المهدي (ع) .

المستوى الثالث :

مستوى  الأوساط التي تعتقد بأن العمل الاسلامي ضد الظلم والظالمين ، غير موثر بأي حال .

وهؤلاء هم اليائسون الذين سيطرت هيبة الانحراف وهيمنة الظلم السائد في البشرية على نفوسهم ، فاعتقدوا بعدم جدوى أي شيء من الاصلاح أو الأمر بالمعروف في هذا المجتمع الفاسد .  ومن ثم اضطروا إلى السكون وترك العمل ، انتظاراً لظهور المهدي (ع) ليكون هو الرائد الأول في اصلاح العالم .

فهذه هي أهم الشبه التي تعيش في أذهان بعض المتسويات ، ويمكن أن نعتمد على معارفنا السابقة في مناقشة هذه الأفكار .  وذلك انطلاقاً من وجوه ثلاثة :

الوجه الأول :

إن مشاركة الفرد والمجتمع في إيجاد شرط الظهور ، لا يكون إلا بالعمل الجاد المنتج لرفع درجة الاخلاص والشعور بالمسؤولية ، ليكون في إمكان المخلصين المشاركة في مهام هداية العالم عند الظهور .

وقد عرفنا كيف وقع ذلك كقضية رئيسية في التخطيط الالهي لليوم الموعود ، وان عنصر التمحيص والاختبار في ظروف العالم والانحراف ، هو العنصر الأكبر في إيجاده .

الوجه الثاني :

ما عرفناه من أن هيجب على الفرد أن يجعل نفسه على مستوى رضاء الامام المهدي (ع) قبل ظهوره وبعده .  ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمثلاً للأحكام الاسلامية بدقة ، سواء ما كان منها على المستوى الشخصي أو على المستوى الاجتماعي .  ولن يحرز رضاء الامام بطبيعة الحال، بالاقتصار على الجانب الشخصي من أحكام الاسلام، لأن في ذلك عصياناً للأحكام الاجتماعية والاصلاحية .  وهو ما لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله ولا المهدي .

صفحة (297)

إذن فالاعتقدا بوجود القائد الرائد ، باعث أي باعث على العمل الاجتماعي والاصلاحي .  ولا يكاد يوجد هذا الباعث بدون هذا الاعتقاد إلا بشكل ضئيل .
وأنما انصرف عموم الناس عن العمل نتيجة لتناسيهم قائدهم وتغافلهم عن مسؤولياتهم تجاهه .

الوجه الثالث :

أننا لو غضضنا النظر – جدلاً – عن الوجهين السابقين ، وفرضنا أن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) ليس له أي أثر في الحث على العمل الاجتماعي المثمر .  فهو – على أي حال- ليس موجباً للمنع عنه والحث على تركه .  فلو وجد هناك دافع آخر للعمل ، أمكن أن يؤثر أثره بكل وضوح ، ويعمل عمله في العقول والقلوب المخلصة .

والسر في ذلك واضح على الصعيد الاسلامي ، كل الوضوع.  باعتبار أن الأحكام الاسلامية الموجودة في الكتاب والسنة ، كانت ولا زالت معروفة وسارية المفعول، ولا زال الناس مسؤولين عن تطبيقها وامتثالها لك تفاصيلها .  ومن الواضح أن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) لا يرفعها ولا يخصصها لضرورة الدين واجماع المسلمين .  وليس على الفرد المسلم الذي يريد الاطاعة والامتثال ، إلا أن يراجع الأحكام الاسلامية ليعرف ما فيها من جوانب شخصية وجوانب عامة ... لكي يطبقها على حياته الخاصة والعامة ، ويباشر العمل الاجتماعي العام طبقاً للتكليف الاسلامي بالجهاد أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو مكافحة الظلم .  وهذا لا ينافي بحال ، عمل الفرد على صعيد عام ، تارة أرى فيما بعد الظهور ، لو حدث اليوم الموعود خلال حياته .

وأما الفرد الذي يسير في طريق الانحراف ، ويبيع دينه بدنياه ، ويقدم مصلحته الخاصة وشهواته على كل اعتبار ، فهو من الطبيعي أن لا يكون الاعتقاد بالمهدي (ع) دافعاً له على العمل ، بعد أن لم يكن الاعتقاد بالاسلام نفسه دافعاً له .  وهذا تقصير في الفرد وليس قصوراً في الفكرة كما هو واضح .  

*  *  *

صفحة (298)

وأود أن أشير في هذا الصدد إلى ملاحظات ثلاث ، لعلها تلقي بعض الضوء على أهمية العم لالاسلامي ، في عصر ما قبل الظهور : 

الملاحظة الأولى :

أننا برهنا خلال عرضنا للتخطيط الإلهي : أن ما يرفع درجة الاخلاص في الأمة ويوجد شرط الظهور ، هو العمل ضد الظلم فعلاً .  ومعه ينبغي أن يمر الفرد فعلاً في ظروف الظلم والانحراف ، لكي يعمل ضده ، حتى يتصاعد إخلاصه وتقوى إرادته .

ومن هنا نعرف أن الفرد الذي يهرب بنفسه من ظروف الظلم ، أو أن المجتمع الذي يعيش في الرفاه النسبي بعيداً عن هذه الظروف. فانه لن يعمل ولن يستطيع الوصول إلى حد الوعي والاخلاص المطلوب .  ولو وصل إلى شيء، فإنما يصل إليه ببطء شديد ، ويكون ضحلاً وقليلاً .

كما أن الأمة إذا شاع بين ظهرانيها الظلم والتعسف ،وكانت راضية به مستخذية تجاهه ،لا يوجد العمل فيها ضده، ولا التفكير لرفعه أو التخفيف منه .

إذن فسفو تكون أمة خائنة يتسافل إخلاصها وينمحي شعورها بالمسؤولية ، وتحتاج في ولادة ذلك عندها من جديد إلى زمان مضاعف ودهر طويل و ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾(1) .  وليت شعري كيف يكون هؤلاء على مستوى إصلاح البشرية كلها في اليوم الموعود،وهم قاصرون عن إصلاح مجتمعهم الصغير؟!!.

إذن فالتفكير الجدي والعمل هو الأساس لتصعيد درجة الاخلاص والشعور بالمسؤولية والمران على الصمود والتضحية هو الشرط الأساسي لتكفل مهمة اليوم الموعود .  فمن السخف ما قيل : بأن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) داعف على الاستخذاء وترك العمل .

الملاحظة الثانية :

إن تصعيد درجة الاخلاص ، قد يكون قائماً على أساس الاضطرار وقد يكون بالاختيار .
_________________
(1) الرعد 13/11 .

صفحة (299)

أما قيامه على أساس الاضطرار(1) ، فهو الأمر العام الذي يقتضيه التمحيص الالهي ، بشك لرئيسي .  فان الأفراد في حبهم لذاتهم وتفضيلهم للراحة ، لا يميلون-عادة- إلى العمل الاجتماعي العام ، لما فيه من شعور بالجهد والمسؤولية .

ومن ثم فهم لا ينطلقون نحو إلا تحت وطأة من الاضطرار والشعور بالضغط والاحراج .  ومن ثم كان لابد في حملهم على العمل  العام من إيكالهم إلى الظروف الصعبة الظالمة .  ومن ثم انعقد التخطيط الإلهي على حمل الأمة على العمل الاضطراري بهذا المعنى ، لأجل تحقيق مصالحها الكبرى في يوم الظهور .

وأما قيام الاخلاص والوعي على أسشاس الاختيار ،فباندفاع المكلف إلى العمل أزيد من مقدرا الاضطرار والاحراج، بمجرد شعوره بالمطلوبية الاسلامية له ،الزاماً أو استحباباً ... بأ، يكون على الدوام معارضاً للظلم داعياً إلى الحق، هادياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة .

صحيح ، ان الاندفاع إلى ذلك ، يحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي والاخلاص وقة الارادة ، لا يتوفر إلا للقليل ... إلا أنه –على أي حال-ليس هو المستوى المطلوب توفره في المشاركة في قيادة العالم كله في يوم الظهور .  وإنما يكون العمل الاختياري أو ما نسميه بالتمحيص الاختياري مضافاً إلى التمحيص الاضطراري ، سبباً لإيجاد مثل هذا المستوى الرفيع .

ومن الواضح ما لهذا التمحيص الاختياري ، من أثر بليغ في التصعيد السريع ، بشكل أعظم بكثير مماينتجه التمحيص الاضطراري ... وفي التعجيل بإيجاد شرط الظهور ، بمقدار ما تقتضيه الظروف الثقافية والفكرية التي يعيشها الفكر الاسلامي ، في أي عصر .

إذن ، فما قيمة هذه الشبهة التي تقول بأن الاعتقاد بالمهدي (ع) يمنع عن العمل الاجتماعي الاصلاحي ، ولله في خلقه شؤون .
________________________
(1) لا ينبغي الخلط بني الاضطرار وبين الاكراه .  فان الاضطرار يمثل حاجة مع انحفاظ الارادة معها ، كمن يبيع دراه من أجل دين كبير عليه .  والاكراه لا تنحفظ معه إرادة كمن باع تحت وطأة التهديد بالقتل ، او تحت الضرب الشديد مثلاً .  ولكل منهما "اختيار" يقابله .  

صفحة (300)

الملاحظة الثالثة:

في فهم الحديث النبوي.

أننا بعد أن عرفنا التخطيط الإلهي لليوم الموعود، نستطيع أن نفهم قوله (ص): يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
فالظلم والجور، في عصر ما قبل الضهورن جزء من هذا التخطيط، لإيجاد الشرط االثاني للظهور، وهو توفير قوة الإدارة والإخلاص في الأمة بشكل عام. وقد عرفنا أن هذا يحدث في نسبة ضئيلة من اليشر، ويكون الباقي على مستوى الانحراف والفساد.

إذن، فالأرض تمتلىء ظلماً وجوراً، لكن لا بالجبر والإكراه، من قبل الله تعالى أو من غيره، وإنما باعتبار انصراف الأعم الأغلب من الناس إلى مصالحهم واندحارهم تجاه تيار الخوف والإغراء. وهو لا ينافي توفر شروط الظهور وترسخه في الناس، متمثلاً في تلك النسبة الضئيلة عدداً الضخمة أهمية وإيماناً وإرادة.

وامتلاء الأرض ظلماً، أمر خارج عن اختيار الفرد بوجوده الشخصي، وإنما هو ناتج عن الطبيعة البشرية بشكل عام، المتوفرة في المجتمع الناقص. ويكون تكليف الفرد إسلامياً منحصراً شرعاً في تصعيد درجة إخلاصه وقوة إرداته، عن طريق مكافحة الظلم والعمل على كفكفته ورفعه. ولكي يتوفر تدريجياً شرط الظهور.

وليت شعري، إن شرط الظهور، هو هذا المستوى اٌيماني، وليس هو كثرة الظلم وامتلاء الأرض جوراً، كما يريد البعض أن يفكروا. لوضوح أن الأرض لو امتلأت تماماً بالظلم وانعدم منها عنصر الإيمان، لما أمكن إصلاحها عن طريق القيادة العامة. بل يكون منحصراً بالمعحزة التي برهنا على عدم وقوعها، أو إرسال نبوة جديدة، وهو خلاف ضرورة الدين من أنه لا نبي  بعد رسول الإسلام.

وإنما تتضمن فكرة اليوم الموعود، سيطرة الإيمان على الكفر، بعد سيطرة الكفر على الإيمان... مع وجود كلا الجانبين. وهو قول الله تعال بالنسبة إلى المؤنين: ﴿ ليستخلفهم في الأرض وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ﴾ وقوله (ص): يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.

صفحة (301)