بل نراها بجميع أساليبها وحقولها تحيط المهدي (ع) بهالة من القدس والغموض ، بحيث لا يمكن الكلام المباشر عنه، أو الخوض في حاله . وكأنه لا بد من إعطاء صورة واحدة من حياة وقسم صغيرة من واقع ، لا يكاد يسمن من جوع أو يغني عن سؤال .

ومن هنا يضطر الباحث إلى استشمام ما وراء الحوادث والنظر إلى الدلالات البعيدة ، ومحاولة إيجاد النظر الجموعي إلى الأخبار وتكوين نظرة عامة موحدة عن الجميع ، قائمة على أساس صحيح من حيث قواعد الإسلام .

العامل الرابع :

عدم مشاركة المسلمين من إخواننا العامة في هذا الحقل . فإنهم رووا في ميلاده ورووا في ظهوره ، إلا أنهم لم ينبسوا ببنت شفة تجاه أخبار الغيبة الكبرى ، ما عدا بعض النوادر من أخبار مشاهدتهم للمهدي خلال هذه الفترة .

والعذر لهم في ذلك واضح عقائدياً ، وذلك لأنهم لا يرون وجود المهدي خلال هذه الفترة ، بل يذهب أكثرهم إلى أن المهدي شخص يولد في وقته المعين عند الله تعالى ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً .

وأما نحن ، فحين نقيم الدليل على حياته من حيث إمكانها وتحققها ، فينفتح الكلام عن الغيبة الكبرى سخياً موفراً بما فيها من حقائق وتاريخ . أما هذه الدليل المشار إليه فهو موكول إلى أجزاء آتية من هذه الموسوعة . وأما التاريخ فهو مما يتكلفه هذا الكتاب .

ويكاد الكلام أن ينحصر فيما ورد من طرق الإمامية من الأخبار ، فيكون عددها – ولا شك – أقل بكثير مما لو شاركت أخبار العامة بإمدادها نصاً أو معنى .

إلا أن ذلك مما لا يكاد يخل بغرضنا من هذا البحث ، فإن الغرض الأساسي منه هو إثبات الفكرة الكاملة عن الإمام المهدي (ع) كما تعتقدها قواعده الشعبية ، وكما تقتضيها قواعد العقل والإسلام ، خالية من الزوائد والخرافات والانحرافات . ليرى منكروها – من أي صنف كانوا من البشر – مقدار ما في الفكرة الإمامية عن المهدي من عدالة ووعي إسلاميين .

ومعه ، فينبغي الاقتصار على ما ورد في طرقنا من أخبار وعلى ألسنة مؤرخينا من كلام ، حتى تبرز الصورة المطلوبة من خلال ذلك ، دون زيادة أو تحريف .مع ضم القليل مما ورد من أخبار العامة صالحاً لتاريخ هذه الفترة، فأنه يكون أيضاً محطاً للاستدلال والاعتماد، عندما نخرج بصحته بعد التمحيص .

صفحة (24)

تذليل هذه المصاعب :

يكون تذليل الصعوبات المنهجية الناتجة عن هذه العوامل ، باتخاذ منهج معين وقاعدة عامة يمكن تطبيقها والاستفادة منها في جميع الموارد ، وتحصيل الجواب الشافي عن كل سؤال على أساسها .

وملخص المنهج الذي سنسير عليه ، هو : إن السؤال المُثار تاريخياً ، له صورتان . إحداهما : أن يوجد في الأخبار ما يصلح أن يكون جواباً عنه . وثانيتهما : أن لا يوجد في الأخبار شيء من ذلك . ويقع الحديث عن كل من الصورتين مستقلاً :

الصورة الأولى :

ما إذا كان الجواب على السؤال التاريخي ، موجوداً في الأخبار . ففي مثل ذلك لا بد من النظر الفاحص الناقد الممحص ، وعرضه على القواعد العامة العقلية والشرعية . وحينئذ ، فلا يخلو أمره : أما أن ينسجم معها أو لا ينسجم . وعلى كلا التقديرين فأما أن يوجد له معارض من الأخبار أو لا يوجد . إذن يكون للجواب عدة حالات .

الحالة الأولى :

أن يكون مضمون الخبر أو العدد من الأخبار ، الصالح لتذليل المشكلة التاريخية ، منسجماً مع القواعد العامة العقلية والشرعية ولا يكون له معارض . فنأخذ به ونسير عليه . ولا إشكال في ذلك .

ونقصد بالانسجام مع القواعد ، مجرد عدم التنافي بين مضمون الخبر وبينها . بمعنى أنه لا توجد قاعدة عامة نافية له أو دالة على بطلانه . وأما الانسجام بمعنى الاتفاق معها في المضمون ، فهو غير محتمل ، لأن شأن القواعد العامة عدم التعرض إلى الموارد الخاصة والخصائص التفصيلية . فتبقى درجة إثبات الخبر لمضمونه بمقدار ما له من قوة إثبات واعتبار ووثاقة في الراوي وترابط في المدلول ، وعدد في النقول التاريخية ووجود الشواهد والقرائن على صحتها . ونحو ذلك . ولا بد – على هذا المستوى – من جمع الأخبار ، والنظر إلى موارد اتفاقها واختلافها ، وما تستقل ببيانه بعض الأخبار دون بعض ، لكي يستنتج من ذلك نظرية متكاملة تدل عليها سائر الأخبار ولا ينافيها شيء منها. لكي تصلح أن تكون هذه الأطروحة أو النظرية جواباً شافياً عن السؤال التاريخي أوالمشكلة المطروحة .

صفحة (25)

الحالة الثانية :

أن يكون مضمون الخبر ، خالياً عن المعارض ، إلا أنه معارض مع القواعد العامة العقلية أو الشرعية . ومن المعلوم – في مثل ذلك – لزوم طرحه وعدم الأخذ به .

إلا أننا نود أن نشير إلى أن الساقط من الخبر يكون محدداً بحدود المدلول الباطل ، دون غيره . فلو احتوت رواية واحدة على مضمون باطل ومضمون صحيح ، أخذنا بالصحيح ورفضنا الباطل ، ولا يستدعي رفض بعضها رفض الجميع . وعلى أي حال ، فلو سقط مضمون الخبر ، ولم يصلح لحل المشكلة ، ولم يكن غيره موجوداً ، كان المورد – في الحقيقة – خالياً عن الإثبات التاريخي ، فيندرج في الصورة الثانية الآتية :

الحالة الثالثة :

أن يكون مضمون الخبر معارضاً بمثله ، فكان لدينا على السؤال التاريخي جوابان متعارضان في الأخبار . فأي من الجوابين أو الخبرين نقدم ؟ هذا له عدة أشكال :

الشكل الأول :

أن يكون أحد الخبرين منسجماً مع القواعد العامة دون الآخر . فنأخذ بالمنسجم بطبيعة الحال ، وندع الآخر، لأن انسجام الخبر مع القواعد يكون مرجحاً له في مورد التعارض .

الشكل الثاني :

أن يكون كلا الخبرين المتعارضين غير منسجمين مع القواعد العامة ، فيتعين طرحهما معاً ، ويبقى السؤال خالياً عن الجواب ، فيندرج في الصورة الثانية الآتية .

صفحة (26)

الشكل الثالث :

أن يكون كلاهما منسجمين مع القواعد العامة ، أي أنها لا تنافي أياً منهما . ففي مثل ذلك لا بد من الرجوع إلى القرائن الخاصة للترجيح ، ككثرة الأخبار في أحد الجانبين أو اعتضاده بنقول أخرى ، ونحو ذلك ، وإن لم توجد مثل هذه القرائن فلا بد من الالتزام بتساقط المضمونين . فيكون المورد كأنه خال عن الخبر يعجز كل منهما عن الإثبات التاريخي. فيندرج السؤال في الصورة الثانية الآتية . ونكرر هنا أيضاً ،أن سقوط بعض مداليل الخبر نتيجة للتعارض، غير موجب لسقوط جميع ما دلت عليه من مضامين .

الصورة الثانية :

ما إذا كان المورد خالياً عن الجواب في الأخبار بالمرة ، أو كان الخبر الدال على وجوبه ساقطاً عاجزاً عن الإثبات، لفساده بحسب القواعد العامة أو نتيجة للتعارض ، بالنحو الذي أوضحناه في الصورة الأولى .

وفي مثل ذلك يبقى المورد خالياً عن الجواب ، ويمكن اعتباره فجوة تاريخية مؤسفة بالنسبة إلى الأخبار . وينحصر تحصيل الجواب عليه من القواعد العامة والقرائن المربوطة بالمورد . ثم نصوغ للجواب (أطروحة) معينة محتملة الصدق ، ونقيم من هذه القواعد والقرائن مؤيدات لها . فيتعين الأخذ بهذه الأطروحة بصفتها الحل الوحيد للمشكلة .

فكرة عن مباحث الكتاب :

إذا اتضح هذا المنهج وصح ، يكون في الإمكان أن ندخل في تفاصيل تاريخ الغيبة الكبرى ، مقسمين البحث إلى أقسام ثلاثة :

القسم الأول :

في تاريخ شخص الإمام المهدي (ع) خلال هذه الفترة ، وما يتصف به من خصائص وصفات .

القسم الثاني :

في سرد الحوادث والصفات التي تكون للإنسانية عامة وللمجتمع المسلم خاصة ، بحسب ما ورد في الأخبار ، وما تقتضيه القواعد العامة .

صفحة (27)

القسم الثالث :

في علائم الظهور الواردة في الأخبار ومحاولة فهمها فهماً واعياً منظماً ، على ضوء المنهج السابق .

وهنا لا بد أن نشير إلى تعذر ما كنا عملناه في تاريخ الغيبة الصغرى من إعطاء فكرة عن التاريخ العام للفترة التي نعرض لها قبل التكلم من تاريخها الخاص المقصود . فإن فترة الغيبة الصغرى حيث كانت محدودة أمكن ضبط تاريخها العام ، في فصل معين . وأما تفرة الغيبة الكبرى ، فتنقسم إلى مستقبل وإلى ماضٍ ، بالنسبة إلى عصرنا الحاضر . أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله عز وجل . وأما الماضي فلو استع المجال لضبط تاريخ طوله حوالي ألف ومئة سنة ، لأمكن أن نتصدى لذلك إلا أن ذلك خارج عن طوق البحث الفردي ، مهما زاد واتسع . فضلاً عن المبني على اختصار . على أن للفرد المثقف الاعتيادي فكرة كافية عن التاريخ الحديث في الألف سنة المعاصرة . وهي وإن كانت فكرة مختصرة إلا أنها كافية في التقديم لهذا البحث ، ولا تحتاج إلى أكثر من ذلك لندرة ارتباط التاريخ الخاص بالمهدي (ع) خلال هذه الفترة بالحوادث العامة . بخلاف ما كان عليه الحال في زمن الأئمة المعصومين (ع) والغيبة الصغرى من زيادة الارتباط .

صفحة (28)