المرتبة السادسة :

الاختيار المطلق ، بمعنى أن يكون للفرد حرية الفعل والترك معاً ، بمقدار خمسين بالمئة على السواء .

وهذا أمر نسبي أيضاً ، فقد تكون أطراف التخيير كلها ممكنة ، وليس في أحدها حافز أكثر من الآخر ... وقد يكون في بعضها حافز أكثر ، وقد يكون في بعضها مثبط أو مبعد . وقد يكون بعضها مضطراً إلى فعله بالمرتبة الثانية أو الثالثة ، ويكون الاختيار باعتبار الأطراف الأخرى ، وهكذا .

المقدمة الثانية :

إذا عرفنا هذه المراتب الست ، أمكننا أن نعرف بوضوح اختلافها في درجة الاختيار ، وأن نلاحظ اختلافها في درجة المسؤولية القانونية المترتبة عليها .

فان كل فعل له أثر قانوني ، تتناسب درجة مسؤولية طاعته وعصيانه مع درجة الاختيار تناسباً طردياً .  ويدور التشريع مدار الاختيار تماماً ، سواء كان التشريع عقلياً أو شرعياً دينياً أو قانوناً وضعياً .  بل أن كل من يتصدى لوضع أي تشريع فانه يفترض سلفاً أن من يأمره وينهاه ويعاقبه شخص له اختيار الفعل والترك ... وإلا فلا معنى للأمر والنهي ولا للنصح والتوجيه ... ويكون العقاب ظلماً والثواب لغواً . فانه إذا انعدم الاختيار ، انعدمت المسؤولية ، إذ يكون للفرد العاصي عندئذ بأنه كان مقهوراً ومجبوراً على العصيان .. ولا معنى لعقابه حينئذ .

فإن قال قائل : فان هناك الكثيرون ممن يؤمنون بالوجود القانوني للتشريع ويعملون عليه . مع أنهم يؤمنون بالجبر وانعدام الاختيار بالمرة .  كالماديين والأشاعرة .

قلنا له : العمل على التشريع من قبل هؤلاء ، ناشيء من أن وجدانهم الارتكازي قائم على الاختيار ، وحياتهم العملية قائمة على الايمان به ، من حيث أن تحمل مسؤولية العصيان أمر عقلاني عام ... فهم مؤمنون بالاختيار عملياً وإن اعتقدوا من الناحية الفلسفية بخلافه ، وغفلوا عن المنافاة بين ثبوت المسؤولية وبطلان الاختيار .

صفحة (383)

وعلى أي حال ، فالمسؤولية القانونية ، تزداد بازدياد الاختيار وتقل بقلته ، كما أنها توجد بوجوده وتنعدم بانعدامه . فهي موجودة في المرتبة الثالثة وما بعدها بوجود الاختيار في هذه المراتب جميعاً .  نعم ، قد يكون الفرد العادي معذوراً في بعض مراتب الاكراه أو الاضطرار الشديدة ، بالرغم من أنه يعتبر عاصياً بالدقة العقلية . كما أنه مع سعة الوعي وعمق الأثر ، قد لا يكون الفرد معذوراً حتى في هذه المرتبة ، كما أنه يجب عليه تحمل الشدائد في سبيل أهدافه .

خذ مثلاً أن فرداً عادياً إذا اضطر إلى سرقة شيء من المتاع أو أكره عليه كان معذوراً ... ولكن لو اكره الرئيس الأعلى للدولة أو أحد علماء الاسلام على مثل هذه السرقة ، لا يكون معذوراً البتة ، لأن في ذلك افتضاح دولته أو دينه ، بل يجب عليه تحمل ما يكره والصبر عليه . حتى لو كان هو القتل – احياناً – إذا كان الهدف من العمق والشمول ، بحيث تبذل في سبيله النفوس .

وتتضاءل المسؤولية ، بنقصان الاختيار ، ففي مورد القصور – مثلاً – تكون المسؤولية منتقيه إلى حد كبير .  لكنها في مورد الاضطرار غير المباشر تكون ثابتة على شكل ناقص ، لإمكان أن يتصرف الفرد بشكل يختلف عما قام به من عمل ، ويكون رد فعله تجاه الحافز بشكل آخر .  وتكون المسؤولية كاملة في صورة الاختيار المطلق ، بطبيعة الحال .

وليس تفاوت درجات المسؤولية ، بدعاً من القول . بل له أمثلة كثيرة في القوانين .  فمثلاً : قسموا القتل إلى عمد وشبه العمد والخطأ . ووجدوا من الظلم إيقاع عقاب المتعمد على شبه العمد أو الخاطئ . كما أنهم قسموه إلى ما كان عن سبق إصرار وما لم يكن . ووجدوا الظلم إيقاع العقاب الذي يستحقه الأول على الثاني . ووجدوا من الظلم – أيضاً – إيقاع عقاب السارق الاعتيادي على السارق في المجاعة .

ونجد في الاسلام أن عقاب الزاني المحصن أشد من عقوبة غير المحصن .  إلى غير ذلك من الأمثلة .  كل ذلك لأن درجة الاختيار أخذت بالتضاؤل ، فتضاءلت معها المسؤولية ، ومن ثم درجة استحقاق العقاب .

صفحة (384)

ولك من المثالين الأخيرين خير إيضاح ، فان درجة اختيار السارق العادي في ترك السرقة أكبر منها في السارق الجائع الذي لا يجد قوتاً ... وإن كان الأخير مذنباً أيضاً . كما أن درجة اتختيار المحصن المتزوج في التعفف عن الزنا أكبر من درجة الأعزب .  وإن كان هذا مذنباً أيضاً ... وهكذا .

وليت شعري ، لا أعلم ماذا يقول الماديون وغيرهم من القائلين بالجبر الفلسفي في مثل هذه الموارد الواضحة قانونياً .فانها مما لا يمكن تفسير الفرق بين مراتبها بناء على رأيهم ، إذ يكون كل العصاة مجبورين على مستوى واحد على العصيان . بل يكون هؤلاء القائلين بالجبر ، مجبورين على اتخاذ هذا الرأي أيضاً !!.

المقدمة الثالثة :

أنه كلما توفرت وازدادت أسباب الايمان بالاسلام بالنسبة إلى الفرد ، ازدادت درجة إمكان اختياره له واعتناقه إياه وإطاعته لتعالميه .  حتى ليصبح متساوي الأطراف ، كالمرتبة السادسة ، بل في طرف اعتناقه حفز قوي ودافع شديد ، لا يوجد مثله في طرف تركه .  كما كان عليه الحال ، فيما بعد الفتح في عصر النبي (ص) ، حتى أننا سبق أن قلنا لأن الإيمان بالغيب كاد أن يكون حسياً ، وهو ما سوف يكون عليه الحال بعد الظهور .  وفي مثل ذلك يكون العصيان ذا مسؤولية كبرى واستحقاق كبير للعقاب .

وكلما صعب طريق الايمان وازدادت عقباته ومزالقه ، وتكثرت التضحيات التي يتطلبها ومقاومة أشكال الظلم والاغراء التي يواجهها ... كانت درجة الاختيار والمسؤولية أقل ، لا محالة ، حتى تصبح من مرتبة الاضطرار غير المباشر بأحد المستويين السابقين .  بل قد تنقص عن ذلك في بعض الأحيان .

ومن الممكن القول : ان اكثر حالات العصيان والانحراف في عصر الفتن والانحراف ، حيث تتركز المصالح الخاصة ويقل الوازع الاخلاقي والديني ، ويدرك الفرد أن كثيراً من الأعمال المنحرفة تعتبر ضرورة من ضروريات حياته ، ويتوقف أمنه وراحته عليها ... ان اكثر هذه الحالات هي من قبيل الاضطرار غير المباشر بالمستوى الثاني على أقل تقدير .

صفحة (385)

وأما القصور الحقيقي ، فيمثل الجزء الأقل ، من أسباب الانحراف في العالم ... باعتبار وضوح القضايا الدينية الاولية ، كالتساؤل عن مبدأ العالم والغاية من خلقه . فإذا استطاع الفرد أن يسير سيراً حسناً في اسنتتاجه ، استطاع الوصول إلى الحق لا محالة .ومن هنا ، شجب القرآن تقليد الآباء لمنافاته الصريحة مع تلك القضايا الأولية الواضحة .

ولئن كان القصور ، وهو الجزء الأقل من أسباب الانحراف في العالم ، موجب للعذر عقلاً وشرعاً ، فان الاضطرار غيرالمباشر ، وهو الجزء الأغلب من الأسباب ، غير موجب للعذر أساساً . لوجود الاختيار والمسؤولية فيه إلى درجة كافية . وخاصة بعد اتضاح معالم الحق ، وقيام الحجة والبرهان عليه وإمكان التضحية في سبيله إلى درجة معقولة ، من قبل الفرد العادي .

إذن ينتج من هذه المقدمات الثلاث : إن المسؤولية القانونية ، وان كانت متوفرة للمنحرفين في عصر الغيبة الكبرى، ولم يكن البشر معذورين في عقائدهم وأعمالهم الباطلة . إلا أن الظروف التي يعيشونها تكفكف من عمق المسؤولية وتقلل من درجتها ، بمقدار ما تقلل من درجة الاختيار ، وتجعل الحافز على الانحراف ، قوياً فعالاً .

وإلى مثل ذلك ، وما يشبهه تشير الرواية التي أخرجها الشيخ في الغيبة (1) بطريق صحيح عن زرارة عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال : حقيق على الله أن يدخل الضلاّل الجنة . فقال زرارة : كيف ذلك جعلت فداك ؟ قال : يموت الناطق ولا ينطق الصامت ، فيموت المرء بينهما ، فيدخله الله الجنة .

والشرح الأولي لهذه الرواية : ان المراد من الضلاّل بالتشديد : المنحرفين من المسلمين ، وإدخالهم الجنة إنما يكون بسبب قلة المسؤولية التي أشرنا اليها ، حتى تكاد تنعدم فينعدم العقاب بالمرة وذلك في ظرف معقد خال من التبليغ الاسلامي ، عند موت الناطق بالحق ، وصمت الموجود .

وقد يراد بالناطق والصامت ، الأئمة المعصومين عليهم السلام . فيراد بالصامت الامام المهدي (ع) وبالناطق من قبله منهم عليهم السلام . وتكون الفترة المشار إليها ، هو عصر الغيبة الكبرى الذي نؤرخ له . كما قد يراد بالناطق والصامت أيّ مفكر ومبلغ إسلامي وداعية إلى الحق سواء كان معصوماً أو لا .
__________________________
(1) ص 277 .

صفحة (386)

يكون المراد فترة أو عدة فترات صعبة من عصر الغيبة ، مع افتراض وجود الارشاد إلى الحق في غير هذه الفترات. هذا ، وأما الفهم الدقيق لهذه الرواية ، فله مجال آخر ، ويكفينا في هذا الصدد أن الفرق بين ما قلناه بني ما قلناه وبين مؤدّى هذه الرواية : هو أن قلة المسؤولية التي أشرنا إليها ، ناتج من ظروف الظلم والاغراء .  وأما قلة المسؤولية التي تشير إليها الرواية فناتجه من ضعف التبليغ الاسلامي ، وما يسببه من الجهل والفراغ العقائدي بشكل عام .

وكلا الأمران صحيح ، وموجب لضعف المسؤولية ، فضلاً عما إذا اجتمعنا ، كما هو الموجود في عدد من عصور عصر الغيبة الكبرى . ومرادنا من الاستشهاد بهذه الرواية ، رفع الاستغراب من قلة المسؤولية مع الانحراف .

النقطة الثانية :

أنه بالرغم مما قلناه من قلة المسؤولية إلى حد ما في عصر الفتن والانحراف .

إلا أن ذلك لا ينافي قانون التمحيص .  ولا ينافي صدق الرواية التي سبقت ودلت على اشتداد غضب الله تعالى على أعدائه إذا غيب حجته .

ويمكن أن نطلع على ذلك من خلال جانبين :

الجانب الأول :

في أن قلة المسؤولية لا تنافي التمحيص .

وذلك : لأننا لم نقل بانتقاء المسؤولية ، كيف ... وإن عصيان الله من أشد الأمور مسؤولية وإجراماً .  ولكننا قلنا بقلتها في صورة الاضطرار غير المباشر عن صورة الاختيار المطلق .  أو بتعبير آخر ، قلتها في عصر الفتن والانحراف عن عصر التشريع ومجاورة قواد الاسلام ، سواء السابقين منهم أو المهدي (ع) بعد ظهوره .

صفحة (387)

...فكل ما ينتج لدينا هو أن الفرد الفاشل في التمحيص في عصر الغيبة أخف جرماً من شخص فاشل في عصر الظهور .تماماً كما ينتج لدينا أن الشخص الناجح في التمحيص في عصر الغيبة أفضل وأحسن من الشخص "الناجح في عصر الظهور " (1) لأن مضاعفة التمحيص وشدته ، يلازم كله هذين الأمرين .

ومعه يبقى التمحيص على حاله ، من حيث أساليبه ونتائجه :

أما أساليبه ، فباعتبار أن قلة المسؤولية النسبية ، لا تعني تغير الواقع الذي يعيشه الفرد من الظلم والتعسف والانحراف . كما لا تعني انعدام مسؤوليته تجاهه .

وأما نتائجه : فباعتبار أن التمحيص ينتج المطلوب الذي خططه الله تعالى من أجله ، وهو وجود العدد الكافي من المخلصين الممحصين لنصرة المهدي (ع) بعد ظهوره والتشرف بحمل مسؤولية الفتح العالمي .  بل أن نتيجة التمحيص تكون بالنسبة إلى الناجحين أفضل كما عرفنا ، وإن كانت بالنسبة إلى الفاشلين فيه قليلة .

الجانب الثاني :

في أن قلة المسؤولية لا تنافي صدق الرواية . وذلك بناء على الايمان بغيبة الامام المهدي (ع) وخط آبائه عليهم السلام ، الذي صدرت هذه الرواية على أساسه .

وذلك : لأن ما قلناه من قلة المسؤولية يشارك فيها ، إلى حد كبير ، البعد عن عصر التشريع وصعوبة الوصول إلى تفاصيل الاسلام إلا للاختصاصيين والمدققين الاسلاميين .وأما في عصر التشريع فهذه الصعوبة غير موجودة.لا مكان الرجوع إلى النبي (ص) أو إلى الأئمة (ع) كل في عصره عند الحاجة .  ووجوب ذلك في نظر الإسلام .

ونحن في تاريخ الغيبة الصغرى (2) اقمنا القرائن الكافية التي تثبت أن عدداً من الخلفاء ، كانوا يعرفون حق الأئمة عليهم السلام وصدقهم ... وكانوا – مع ذلك – يناجزونهم المطاردة والتعسف والتنكيل .
_______________________________
(1) لكن هناك بعد الظهور تمحيصاً إضافياً يمنع من صدق هذه النتيجة صدقاً مطلقاً . على ما سوف يأتي في التاريخ القادم .
(2) أنظر ص 447 وما بعدها إلى عدة صفحات .

صفحة (388)

ومن هذا المنطلق بالتعيين ، نعرف المراد من الرواية ، إذ تقول : وإن أشد ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجته ، فلم يظهر لهم ... الخ .  وذلك بعد الالتفات إلى مقدمتين :

المقدمة الأولى :

ما عرفناه الآن ، من تضاعف المسؤولية في ذلك العصر ، عنه في عصر الغيبة الكبرى ، وهذا في العصيان الاعتيادي ، فكيف بمطاردة الأئمة (ع) وقواعدهم الشعبية ، مع علم الحكام بأن الحق إلى جانبهم .

المقدمة الثانية :

إن المراد من قوله – في الرواية - : إذا افتقدوا حجته ..النظر إلى أول الغيبة ، فقط .  لأن الافتقاد أو الغيبة إنما حصل في ذلك الحين ، وأما ما بعده من الزمان ، فهو استمرار لذلك المعنى ، وليس افتقاداً آخر .

فينتج عن المقدمتين : ان المراد هو اشتداد غضب الله تعالى على الحكام ، في مبدأ الغيبة الصغرى ، حيث كانوا يطاردون أولئك الذين يعرفون أن الحق إلى جانبهم .  ويعصون ما يفهمونه من الحكم الاسلامي الصحيح .

فان ناقشنا في المقدمة الثانية ، وقلنا بشمول التجيس لكل عصر الغيبة الكبرى .  باعتبار المقابلة بين الفقرتين في الرواية .  فانه (ع) يقول : أقرب ما يكون العباد إلى الله عز وجل ... إذا فقدوا حجته ... وأشد ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجته ... الحديث .  وحيث علمنا أن جانب الرضا شامل لكل عصر الغيبة ، وغير خاص بأولها ، نعلم أن جانب الغضب شامل لجميعها أيضاً .

وهذا الكلام وجيه إلى حد كبير ، ومطابق مع التخطيط الالهي .  لما عرفناه من أن التمحيص حين ينتج نتائجه النهائية في آخر عصر الغيبة الكبرى .  يكون الناس على طرفين متناقضين : قلة شديدة الايمان قوية الارادة إلى درجة كبيرة . فهذا هو ما تشير إليه هذه الرواية . غذ يكون لاقرب الالهي والرضا عن أولئك القلة ، ويكون الغضب الشديد على المتطرفين ، من هؤلاء الكثرة .

وأما من خلال هذا العصر ، فمن الواضح ، أن التمحيص كلما سار قدماً وتصاعد درجة ، ازداد إيمان المؤمنين وانحراف المنحرفين معاً .  وتصاعد الرضا والغضب المشار إليه في الرواية ، بشكل متدرج مقترن .

صفحة (389)

النقطة الثالثة :

قوله (ع) – في تلك الرواية - : وقد علم الله تعالى أن أولياءه لا يرتابون . ولو علم أنهم يرتابون لما غيب عنهم حجته طرفة عين .وهو تعبير ورد في عدة روايات (1) .

نفهم من ذلك : أن الارتياب والشك بوجود المهدي (ع) أثناء غيبته ناشئ في واقعه من الانحراف والفساد الموجود في هذا العصر ، وأما لو خلي الفكر الانساني المستقيم ونفسه لما رقى اليه الشك .

ونحن وإن كنا قلنا أن طول الغيبة سبب للشك بحسب طبيعة البشر لكونها من الأمور غير المعهودة في ربوعهم .  إلا أن الشخص الذي يربط الأمور بمصدرها الحقيقي الأول ، تبارك وتعالى ، ويعرف قدرته الواسعة وحكمته اللانهائية ، لا يستبعد عليه التصدي لحفظ شخص معين أمداً طويلاً ، لأجل تنفيذ العدل في اليوم الموعود .  بل يرى أن ذلك لازم ومتعين بعد قيام البرهان على وجود الغرض الأصلي من الخليفة وعلى حقيقته .  وانحصار تحقق هذا الغرض بهذا الأسلوب . بحيث لو لم تكن هناك أي رواية تدلنا على وجود المهدي ، لكان اللازم على الفكر الانساني أن يعترف به .

وإنما الذي يمنع من ذلك ، ويزرع في طريقه المصاعب والمتاعب ، هو الانحراف الفكري ، وخاصة إذا وجد لدى بعض القواعد الشعبية الذين بني مذهبهم على الاعتزاز بوجوده والتسليم بإمامته .

ومن هنا نرى أن أولياء الله الممحصين الذين ليس للفتن إلى قلوبهم ولا للضغط والظلم طريق إلى قوة إرادتهم ... لا يرقى إليهم الشك في المهدي (ع) . لأن العوامل النفسية والموانع المنحرفة لذلك غير موجودة لديهم . فيبقون على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، من الايمان بقدرته وحكمته ، فيسلمون بنتيجة الدليل القطعي الدال على وجود المهدي .

ومن هذا المنطلق نعرف ، أنه لو لم يكن الفكر الانساني مدركاً لذلك ، بحيث أمكن سراية الشك إلى أولياء الله تعالى ... لما غيب الله عنهم حجته طرفة عين .
_________________________________
(1) أنظر إكمال الدين المخطوط وغيبة النعماني ، ص 83- 84 .

صفحة (390)

لاستلزامه نقصان الحجة أو بطلانها بالنسبة إلى البشر ، وهو مما لا يمكن أن يصدر من قبل الله تعالى ، فانه ملازم من أحد أمرين غير ممكنين : أما إلغاء إمامته أو تكليف البشر بالاعتقاد بها بدون دليل ، وكلاهما مما لا يكون ... فيتعين المحافظة على ظهوره بالمقدار يثبت وجوده وتقوم به الحجة في الاسلام .

فإن قيل : أنه إذا لم يغب الفرض الالهي الذي عرفناه منحرفاً ، لأنه يؤدي إلى عدم تنفيذ اليوم الموعود .  وهو محال ، بعد تعلق الحكمة والمصلحة به لدى الله عز وجل .

قلنا : هذا صحيح ، إلا أن غيبته في الحقيقة ناتجة عما ذكر في الرواية من أن أولياء الله تعالى منذ الأزل ، فأسس تخطيطه منذ خلق الخليفة عليه .  وأما القول : بأن الغيبة توجب الارتياب ونقصان الحجة على إثبات وجود المهدي (ع) ، فهو قول باطل ، كما ذكرنا .

ولو فرض هذا القول تاماً صحيحاً احتاج الأمر إلى أن إدخال تغييرات أساسية في التخطيط الالهي لليوم الموعود ، وأدى بنا إلى افتراضات غير واقعية في الخارج ، مما نحن في غنى عن افتراضها ، بعد قيام الدليل القطعي على خلافها .

هذا هو تمام الكلام في هذه النقطة الثالثة .

وبه ينتهي الكلام في الجهة السادسة والأخيرة من الفصل الثالث من هذا القسم الثاني من هذا التاريخ .

وبذلك ينتهي هذا الفصل أيضاً . وبه ختام هذا القسم الثاني من التاريخ .

والحمد لله رب العالمين .

صفحة (391)