وقد دلت على ذلك الروايات ، ولعل اوضحها الخبر السابق الذي اخرجه النعماني في الغيبة (1) عن ابي عبدالله الصادق عليه السلام حين سئل : هل ولد القائم ؟ فقال : لا ولو ادركته لخدمته ايام حياتي .

وفي حديث آخر (2) عن الريان بن الصلت قال : للرضا عليه السلام : انت صاحب هذا الأمر ؟ فقال : انا صاحب هذا الأمر ، ولكني لست بالذي أملؤها عدلا كما ملئت جورا .  وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني .  وان القائم هو الذي اذا خرج كان في في سن الشيوخ ومنظر الشبان .. الحديث .

واما الادلة المشار اليها الدالة على تساوي الأئمة (ع) فيمكن ان تحمل على تساويهم في الامامة ، أو في قابليتهم للقيادة العالمية بغض النظر عن تكامل ما بعد العصمة .  كما يمكن ان يستثنى منها المهدي (ع) بالخصوص نظرا إلى هذه الادلة الاخرى .

الجواب الثاني :

انه لا يلزم مما افضلية المهدي (ع) على آبائه ، خلافا لما تخيله السائل ، ولما قلناه في الجواب الأول .

وذلك : لان نفس تلك الروايات دلت على ان كل ما يحصل عليه امام متأخر من الكمال ، يعطيه الله تعالى لكل الأئمة المتقدمين عليه ولرسول الله (ص) أيضاً وقد سبق أن سمعنا قول الإمام الباقر (ع) – في حديث- : أما أنه إذا كان ذلك عرض على رسول الله (ص) ثم الأئمة ثم انتهى الأمر إلينا .

وفي خبر آخر للكُليني في الكافي (3) عن أبيعبدالله (ع) انه قال : ليس يخرج شيء من عند الله عز وجل ، حتى يبدأ برسول الله (ص) ، ثم بامير المؤمنين صلوات الله عليه .  ثم بواحد بعد واحد ، لكي لا يكن آخرنا اعلم من اولنا .
_______________________
(1) ص 129 .  (2) أنظر الكافي (نسخة مخطوطة) .   (3) المصدر نفسه .

صفحة (429)

السبب الثاني :

لتكامل الامام المهدي (ع) ما يحدث في عصر الغيبة من الانحراف والفتن .

فانه موجب لتكامله من جهتين :

الجهة الأولى :

ما يواجهه عليه السلام شخصيا من الظلم والانحراف ، انطلاقاً من الاطروحة الثانية التي ذكرناها في القسم الأول من هذا التاريخ ، وهي اطروحة خفاء العنوان ، التي تقول : ان المهدي (ع) خلال غيبته يعيش كفرد عادي في المجتمع .. إذن فهو يواجه ما يواجهه الآخرون من أنحاء الظلم والانحراف .. فيفضل على الافراد الممحصين الناجحين من ناحيتين رئيسيتين :

الناحية الأولى :

الرصيد العظيم الذي يملكه عليه السلام ، في التفسير الصحيح وردّ الفعل الصائب تجاهه ، على حين لا يصل الفرد الاعتيادي إلى ما يقارب في اقصى تكامله خلال حياته .  واذا كان هذا الرصيد موجودا من اول الامر ، كان التكامل بالنسبة اليه اسرع واعمق انتاجا ، بشكل لا يقاس بالآخرين بطبيعة الحال .

الناحية الثانية:

طول الزمن ، وانحاء الظلم الكثيرة التي يواجهها المهدي (ع) خلال عمره الطويل . فلئن كان الفرد الاعتيادي يمكن ان يكون ممحصا خلال العشرات القليلة من السنين ، فكيف بمن يعيش في عالم التكامل عشرات العشرات من السنين .

وقد يخطر في الذهن : اننا ذكرنا فيا سبق ان تمحيص الفرد يؤثر فيه نتائج التمحيص للاجيال السابقة ، عن طريق قانون تلازم الاجيال ، فيغني ذلك عن الحياة الطويلة السابقة .

فنقول في جواب ذلك : اننا ذكرنا إلى جنب ذلك : ان قانون تلازم الاجيال لا يقتضي انتقال تجارب الاجيال السابقة إلى اللاحقة مئة بالمئة ، وان كان يشارك في ذلك مشاركة فعالة .  فكيف يقاس ذلك بالتجارب التي ينالها الشخص نفسه ، والتكامل الذي يحرزه .

صفحة (430)

على ان الفرد يرد إلى عالم التمحيص فجا تماما ، يحتاج إلى تلقي تجارب السابقين أولاً ، والزيادة عليها من تجارب نفسه ثانياً . وهذا ملغى لدى الشخص الذي أحرز الكمال بنفسه سلفاً والتفسير الصحيح للحياة ، مما يغنيه عن تجشم تلك المتاعب وقضاء الوقت الطويل فيها ... بل هو يقضي الوقت المتبقي في التصاعد في درجات جديدة عليا من الكمال .

الجهة الثانية :

أنه يمكن أن يقال على شكل الأطروحة المحتملة : إن معاصرة المهدي (ع) التاريخية الطويلة ، للأجيال ، توجب له الإطلاع المباشر على قوانين تطور التاريخ وتسلسل حوادثه وما يؤثر في المجتمعات البشرية ونفوس الأفراد من مؤثرات سلبية وإيجابية ، مما لا يمكن التوصيل إليه عن طريق آخر أصلاً ، كمراجعة التواريخ المسجلة أو معاصرة الحقبة الزمانية خلال حياة قصيرة .

فإن التاريخ أضيق وأعجز من أن ينقل إلينا تفاصيل الحوادث بشكل دقيق وعميق ، ولا يمكن أن نعيش من خلال نفس الحوادث المؤرخة بشكل موضوعي خالص...وقد سبق أن برهنا على ذلك في مقدمة تاريخ الغيبة الصغرى(1).

وأما الحقبة الزمانية المعاصرة لحياة الفرد الاعتيادي ، فهي أيضاً أضيق وأعجز من أن تطلعه على التاريخ البشري العام ... وإنما يستنتج الفرد منها أموراً بمقدار قابليته ومستوى تفكيره وحدود الزمان والمكان التي يعيشها .

فلا يقاس كل ذلك ، بمن عاصر التاريخ كله وعاش خلال تقلباته وانطلاقاته خلال عصر الفتن والإنحراف ، واستطاع أن يربط الأسباب بمسبباتها ... فإنه يستطيع أن يلم بقوانين التاريخ بنظرة أوسع واشمل ، مما ييسر له إلى حد بعيد وضع المخططات ذات التأثير الفعال في أي ميدان من ميادين الحياة ، بعد ظهوره ، بل وحتى في عصر غيبته ، بعد الذي عرفناه ، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان ، من أن المهدي يعمل ـ في بعض الحدود ـ خلال غيبته، في مصلحة الإسلام والمسلمين .

ولا يبقى تجاه هذه الاطروحة من تساؤل، إلا ما دل من الأخبار على أن الإمـام متـى أراد أن يعلم أعلمه الله تعالى ذلـك(2).فإنه قد يقال : أنه لا حاجة إلى هذه الأطروحة بعد أن كان في إمكان الإمام المهدي (ع) أن يعلم بقوانين التاريخ تفصيلاً ، بل بحوادثه أيضاً و بمجرد أن يريد ذلك .
ـــــــــــــــــــ
(
1)  
أنظر ص25 وما بعدها إلى عدة صفحات .
(2)   أخرج الكليني في الكافي عدداً منها في باب بعنوان : أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا  

صفحة (431)

ويمكت الجواب على هذا التساؤل على عدة مستويات ، تذكر منها مستويين:

المستوى الأول :

أنه ورد في الأخبار أن الله تعالى قد يحجب الالهام عن الالمام (ع) متى شائع . فمن ذلك : ما أخرجه الكُليني في الكافي (1) بسنده عن الإمام الباقر (ع) أنه قال : يبسط لنا العلم فنعمل ، ويقبض عنا فلا نعمل . ومعه فمن المحتمل ـ على أقل تقدير ـ أن تكون بعض القوانين العليا أو الكلية للتاريخ ، يحجب الالهام بها عن الإمام المهدي (ع) لكي يعيشها في الحياة ،ويستنتجها عن طريق التجارب الحسية المباشرة لتطورات التاريخ .

وإذا كان الإطلاع المباشر اكثر رسوخاً في النفس ، من العلم النظري ، كانت المصلحة متعلقة لا محالة ، بتحويل المهدي (ع) على حوادث التاريخ مباشرة ، وحجب الالهام عنه ،بهذا الخصوص ، لكي يكون أكثر كمالاً ، وأسهل تطبيقاً لليوم الموعود .

المستوى الثاني :

إن هذه القاعدة : إذا أراد الإمام أن يعلم أعلمه الله ذلك ، التي نطقت بها الأخبار ، بالرغم من عمقها وسعتها ، وأفضلية الواجد لها على كل الآخرين . إلا أنه ـ مع ذلك ـ لا ينبغي المبالغة في نتائجها .

فإن فيها نقطة ضعف رئيسية ، وهي تعليقها على الإرادة ،فإن الإمام إذا أراد أن يعلم أعلمه الله تعالى ، وأما إذا لم يرد أن يعلم فإن إعلام الله تعالى له لا يتحقق . فإذا استطعنا أن نضم إلى هذه القاعدة أمرين آخرين استطعنا أن نعرف كيف أنه لا ينبغي المبالغة في نتائجها . 
ــــــــــــــــــــ
(1)  
انظر في الكافي ،باب : أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا .

صفحة (432)

الأمر الأول:

إن الإمام عليه السلام ، بالرغم مما يستدل عليه في الفلسفة من استحالة الغفلة عليه ... لا يمكن الالتزام بكونه ملتفتاً إلى كل الأمور في الكون دفعة واحدة. فإن ذلك من خصائص الله عز وجل وحده .ولا يقوم ذلك البرهان بإثباته.

إذن فالغفلة ، بهذا المعنى ضرورية الثبوت للإمام بلا إشكال. ومع الغفلة لا يمكن أن يريد أن يعلم . فإن إرادة العلم تتوقف على الالتفات لا محالة ، وبدونه لا معنى لهذه الإرادة.

فإذا لم يرد الإمام أن يعلم ، لا تنطبق هذه القاعدة بطبيعة الحال ، وإعلام الله تعالى إياه لا يتحقق .

الأمر الثاني :

المظنون جداً ، ارتباط هذه القاعدة بالموارد الجزئية ،والحوادث المتجددة ، ففي كل حادث معين إذا لم يجد الإمام (ع) حلاً لمشكلته وأراد أن يعلم ذلك أعلمه الله تعالى إياه . وأما شمول هذه القاعدة لعمومات واسعة ، كالعلم بكل شيء أو بكل الحوادث في الأرض أو بكل التاريخ البشري مثلاً ، فمن المستبعد جداً أن الإمام يطلب من الله تعالى العلم بذلك دفعة واحدة . والمدلول العام للقاعدة الذي يعطيه سياقها ، يأبى شمولها لمثل ذلك .

فإذا تمّ هذا الأمران ، كان من المتعين للمهدي (ع) حين تتعلق المصلحة بإطلاعه على القوانين العامة للتاريخ ، أن يعيش هذا التاريخ ، وينظر تفاصيل حوادثه وترابطها وتسلسلها ، لكي يستنتج ، هو بفكره الثاقب وبالالهامات المتتابعة في كل واقعة ، ما يمكن التوصل إليه من هذه القوانين.

السبب الثالث :

من أسباب تكامل الإمام المهدي (ع) ،في تكامل ما بعد العصمة ... خلال غيبته : ما يقوم به عليه السلام من أعمال وتضحيات اختيارية في سبيل الإسلام والمسلمين .

صفحة (433)

ويتم الاطلاع على ذلك بعد ثبوت مقدمتين سبق أن عرفناهما :

المقدمة الأولى :

إن الفعل الاختياري للفرد يسعى به إلى الكمال والأكمل ، حسب مرتبته السابقة من الكمال . وقد سبق أن سميناه في تكامل ما قبل العصمة بالتمحيص الاختياري . فإن كان قائداً عالمياً ، معصوماً ، كان الكمال الذي يحوزه بتضحياته التي تكبر وتتسع تبعاً لاتساع مسؤولياته ... عظيماً وجليلاً .

المقدمة الثانية :

إن الإمام المهدي (ع) كما قلنا في أطروحة خفاء العنوان السابقة ، يقوم بالعمل في مصلحة الإسلام والمسلمين ، ضن شرائط عرفناها .

ينتج من هاتين المقدمتين ، إن ما يقدمه المهدي (ع) من أعمال في سبيل الله والإسلام ، يكون سبباً في تكامله المستمر ، من الكامل إلى الأكمل ، وخاصة فيما يعود إلى القرب الالهي والرقيّ المعنوي .

فإن قال قائل : إن ما يقوم به من هذه الأعمال ، هينة وقليلة بالنسبة إلى منزلته العليا ... بحيث لا تكاد تسبب له التكامل .

قلنا في جوابه : أولاً : أننا لو سلمنا ضآلة هذه الأعمال ، بالنسبة إليه ، لا نستطيع أن ننفي تكامله بمقدارها .... وإن أوجبت له تصاعداً قليلاً في درجات الكمال ... بعد أن عرفنا أن التضحيات الاختيارية سبب للتكامل على أي حال

ثانياً : إن الأعمال التي يقوم بها المهدي (ع) ليست بالقليلة ولا الهينة ، كيف وقد يتوفق عليها حفظ المجتمع الإسلامي ، ودفع البلاء عن المسلمين . وقد سبق أن سمعنا في رسالته التي أرسلها إلى الشيخ المفيد ، برواية الطبرسي في الاحتجاج (1) : أنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطملكم الاعداء .

فهذه الاعمال ، بالرغم من ضآلتها النسبية لو قيست بأعمال يوم الظهور ... إلا أنها ذات أثر عظيم في نفس الوقت ،في إيجاد التكامل . وما يناله من الكمال تابع للنتائج التي يصل إليها ، لا الأسلوب الذي يقوم به . كما هو الحال في كل فرد عامل في سبيل الحق ، بل في كل عمل على الإطلاق ، فإنه تقاس الأعمال بالنتائج لا بالمقدمات .
ـــــــــــــــــــــــ
(1)  
ص 323 ، جـ 2 .

صفحة (434)

فهذه هي الأسباب الثلاثة التي تسبب تصاعد المهدي (ع) في درجات الكمال خلال غيبته الكبرى ، بحسب معرفتنا لا بنحو الحصر الكامل . وإذا كان مبدأ التكامل وأقل مرابته هو قابلية قيادة العالم ، فكيف بالتكامل المضاعف الكبير الجليل الذي يحرزه ... مما يكون له أهم الأثر في تعميق التطبيقات الحكيمة التي يقوم بها المهدي (ع) في اليوم الموعود .

ملحوظة :

تختص بهذه الأسباب الثلاثة ، الأطروحة الأمامية لفهم المهدي (ع) القائمة على الإيمان بوجوده وغيبته .

وأما الفهم الآخر ، القائم على ولادته في آخر الزمان و فكما لم يستطع أن يستوعب قابليته لقيادة العالم ، كما عرفنا .... لا يستطيع هذا الفهم ايضاً أن يقول بتكامله إلا بالمقدار القليل الذي يتكامل به الفرد المؤمن الاعتيادي خلال حياته .

فإذا ضممنا كلا الأمرين : انفصال المهدي عن الوحي حتى بالواسطة ، مما يحجب عنه قابلية القيادة العالمية ، وعدم تكامله الطويل خلال الزمان ... لزمنا افتراض أن المهدي (ع) حين يولد في آخر الزمان ليس أكثر من فرد من المخلصين الممحصين الذين عرفنا عدداً من خصائصهم  . وإذا كان القائد كذلك فكيف بالجنود ؟! ومعه يستحيل عليه ـ عادة ـ القيام بالمهمة الكبرى لليوم الموعود وتنفيذ الغرض الالهي الأكبر فيه .

إذن فهذا الفهم للمهدي (ع) مساوق مع إنكار اليوم الموعود من الناحية العملية ... وينحصر تنفيذ التخطيط الالهي لإيجاده ، بوجود الغيبة الطويلة لا محالة . ومن هنا تدخل الغيبة كجزء رئيسي في التخطيط الالهي الكبير .

هذه نهاية الكلام في الجانب الثلاث . وبه ينتهي الكلام عن المستوى الثاني في تكامل قابلية القيادة العالمية . وهو نهاية الكلام عن الجهة الرابعة في التخطيط الالهي الخاصة بإيجاد القائد .

وهو نهاية الفصل الأول عن شرائط الظهور .

صفحة (435)