فإن احتمال الأولية في الوعد الحق في الآية ثلاثة :

الأول : أن يكون المراد به الوعد الالهي بفتح يأجوج ومأجوج ، من ردمها .

كما قد يفهم من قوله تعالى قال : ﴿ هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً .

الثاني : أن يكون المراد به يوم القيامة .

الثالث : أن يراد به الوعد بظهور المهدي (ع) في اليوم الموعود .

أما الاحتمال الأول ، فهو بعيد عن ظهور الآية التي نتكلم عنها ، فإن ظاهرها تأخر الوعد الحق عن فتح يأجوج ومأجوج ، وإن فتحهم يكون عند اقتراب الوعد الحق ، لا عند نجازه .ومن المعلوم أنه لو كان المراد بالوعد الحق: الوعد بفتحهم ، لكان فتحهم تحقيقاً لذلك الوعد ، لا أنه يكون مقترباً .

إذن فالوعد بفتح يأجوج ومأجوج لو كان مراداً من قوله تعالى : ﴿ فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء .... فهو غير مراد من قوله تعالى: ﴿ واقترب الوعد الحق . بل المراد به وعد آخر متأخر زماناً عن الفتح .

ومعه يبقى هذا الوعد الحق ، مردداً بين الاحتمالين الآخريين .

وقد يمكن أن يستدل للاحتمال الثاني ، وهو أن يكون المراد من الوعد الحق : الوعد بيوم القيامة ... يستدل عليه من سياق الآيات التي وردت هذه الآية في ضمنها . وحيث يكون السياق متعرضاً إلى حوادث القيامة ، فيعرف أن الوعد الحق يراد به الوعد بالقيامة أيضاً .

قال الله تعالى: ﴿ واقترب الوعد الحق ، فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا . يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين . أنكم وما تعبدون من دون الله ، حصب جهنم أنتم لها واردون . وكل ذلك يحدث في يوم القيامة ، فيكون دالاً على أن المراد من الوعد الحق هو ذلك .

إلا أنه يمكن لهذا المستدل أن يتنازل عن هذا الفهم ، إذا علم إمكان حمل الوعد الحق على ظهور المهدي (ع) بالرغم من هذا السياق . فإن تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة بعد الظهور ، يصوغ المجتمع البشري بشكل جديد وقويم لا قبل للكافرين والمنحرفين به ، ومعه يكون من الطبيعي أن تكون " شاخصة أبصار الذين كفروا " . ومن الطبيعي أيضاً أن يقولوا في ذلك المجتمع الكريم : " يا ويلنا قد كنا " في عصر الغيبة الكبرى : عصر الفتن والانحراف : " في غفلة من هذا ، بل كنا ظالمين " فاشلين في التمحيص الالهي .

صفحة (529)

والتوبة لا تكون مقبولة من المنحرفين الراسبين في التمحيص ، بل سيبادر الامام المهدي (ع) لقتلهم واستئصالهم جملة وتفصيلاً على ما سيأتي في التاريخ القادم . ومن هنا يذهبون بسرعة إلى جهنم . طبقاً لقوله تعالى : " أنكم وما تعبدون " من أشخاص ومصالح ، كانت مقدسة من عهد الفتن والانحراف ، " ومن دون الله ، حصب جهنم أنتم لها ورادون " .

ليس هذا فقط . بل يمكن أن يكون قوله تعالى : ﴿ فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً ... لا يراد به الوعد بفتح يأجوج ومأجوج ، بل الوعد بالظهور أيضاً .طبقاً لما فهمناه من الآية والحديث من أن فتح يأجوج ومأجوج يكون قبيل الظهور . ويكون المراد من مجيئه في الآية الكريمة ، المشارفة على المجيء ،ولو بقرينة الآية الأخرى .

هذا الكتاب قلناه كله ، بحسب الامكان والاحتمال . وأما صعود هذه الفكرة إلى مرتبة الاثبات التاريخي ،فهو متوقف على استظهارها جلياً من الآية ، ولا يكفي كونها مناسبة معها . فإن تساوى الاحتمالين في معنى الوعد الحق ، لا يعني إمكان استدلال على المطلوب . ومعه يكون تأييد الآية للحديث الشريف غير متحقق .

فيبقى الحديث بدون قرينة .ومعه لا يمكن أن يصمد أمام التشدد السندي ويسقط عن إمكان الإثبات التاريخي . ومع نبقى جاهلين بتقدم خروج يأجوج ومأجوج على عهد الظهور .

يبقى التساؤل عن مدى صحة التفاصيل الموجودة في الحديث ، ومدى إمكان الأخذ بها . والصحيح أنها لا تكاد تصلح للاثبات التاريخي . وهذا واضح إن أسقطنا الحديث تماماً . وأما إذا غضضنا النظر عن ذلك واعتبرنا الآية قرينة عليه ، وأخذنا به .فإننا إنما نأخذ بالحديث بمقدار مطابقته للآية ، وهو دلالته على فكرة تقدم خروج يأجوج ومأجوج على الظهور .وأما التفاصيل ، فتبقى غير ثابتة طبقاً للتشدد السندي ، ومعه لا يكون من المهم أن ننظر في تمحيص هذه التفاصيل .

                                                     *    *    *
صفحة (530)

فهذه جملة مهمة من علائم الظهور ، كما وردت في نصوص الأخبار .

تبقى بعض العلامات الأخرى ، التي يفهم من النصوص قربها الشديد للظهور ، كالنداء باسم المهدي (ع) ونزل عيسى بن مريم عليه السلام وغيره ... فهذا ما ينبغي تأجيله إلى التاريخ القادم ، تاريخ ما بعد الظهور .

الناحية الثانية :

 في محاولة إعطاء المفهوم العام المنظم عن مجموع العلامات جهد الامكان ، بنحو يرتبط بالقواعد العامة التي عرفناها من قانون المعجزات وقانون التمحيص وشرائط الظهور ، ونحوها .

ويمكن التعرض إلى العلاقات على مستويات ثلاثة :

المستوى الأول :

ما يكون مندرجاً في ظواهر الانحراف العام ، الناتج عن تمحيص عصر الغيبة الكبرى . سواء ما وقع منه كدولة العباسيين والحروب الصليبية ، وما لم يقع كظهور الدجال والسفياني .

المستوى الثاني :

ما يكون مندرجاً في ظواهر الانحراف العام ، الناتج عن تمحيص عصر تقويمه قبل عصر الظهور . سواء ما وقع منها كثورات الحسنيين في عصر الخلافة ، أو مما لم يقع كحركة اليماني والنفس الزكية ، لو ثبت وجودها .

المستوى الثالث :

ما يكون على مستوى التنبيه الالهي الاعجازي على خطورة الانحراف وقرب الظهور ، كالصيحة والخسوف في آخر الشهر والكسوف في وسطه .

فلا بد من التكلم على كل هذه المستويات .

صفحة ( 531)

المستوى الأول :

ما يكون على مستوى الانحراف العام السائد في عصر الغيبة أسباباً له أو مسببات :

ويندرج في ذلك أكثر العلامات الواردة في الأخبار ، سواء ما حدث منها أو ما لم يحدث . فإنها جميعاً تعبر عن أشكال السلوك المنحرفة في المجتمع المنحرف . سواء حملنا هذه العلامات على وجهها الصريح أو على وجهها الرمزي .

أما إذا حملناها على صراحتها ، فالأمر واضح ، ولا يحتاج إلى مزيد كلام . سواء في ذلك انحراف القيادة الإسلامية ، بعد النبي (ص) أو حدوث دولة بني العباس أو خروج الرايات السود بقيادة أبي مسلم الخراساني . أو اختلاف أهل المشرق والمغرب أو ثورة صاحب الزنج أو الحروب الصليبية أو مقاتلة الترك أو نزول الترك بالجزيرة أو نزول الروم الرملة أو قتل النفس الزكية أوظهور الدجال والسفياني ، طبقاً للفهم الكلاسيكي لهما ... إلى آخر ما عددناه من أمثال هذه العلامات.

وأما إذا حملناها على أنها مسوقة الرمز ، فهو المهم الذي نستطيع به أن نقدم فهماً متكاملاً لمجموع العلامات . وإن كان سيكلفنا هذا الفهم الاستغناء عن بعض التفاصيل الواردة في الأحاديث . وقد سبق أن قلنا أن شيئاً من التفاصيل لم يثبت بعد التشدد السندي ، ولكنه بعد الحمل الرمزي ستكون أكثر التفاصيل قد تحققت في الخارج في التاريخ البشري . وكل ما تحقق في التاريخ فالأخبار عنه صادق كما سبق أن ذكرنا . وكل شيء من التفاصيل لا يدخل في هذا الفهم الرمزي العام ، يبقى لا دليل على ثبوته وصدقه ، ومن ثم يقتضي التشدد السندي نفيه .

وإن أهم وأعم ما يواجهنا في هذا الصدد ، مفهوم الدجال ، الذي يمثل الحركة أو الحركات المعادية للاسلام في عصر الغيبة عصر الفتن والانحراف .... بادئاً بالأسباب الرئيسية وهي الحضارة الأوروبية بما فيها من بهارج وهيبة وهيمنة على الرأي العام العالمي ، ومخططات واسعة... ومنتهياً إلى النتائج وهو خروج عدد من المسلمين عن الإسلام واعتناقهم المذاهب المنحرفة ، وما يعم الافراد والمجتمعات من ظلم وفساد .

فليس هناك ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة خلق منحرف أكبر من الدجال . باعبتار هيبة الحضارة الأوربية وعظمتها المادية ومخترعاتها وأسلحتها الفتاكة ، وتطرفها الكبير نحو سيطرة الإنسان والالحاد بالقدرة الالهية .... بشكل لم يعهد له مثيل في التاريخ ، ولن يكون له مثيل في المستقبل أيضاً . لأن المستقبل سيكون في مصلحة نصرة الحق والعدل .

صفحة (532)

ويؤيد هذا الفهم قوله في الخبر الآخر : " ليس ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة أمر أكبر من الدجال " .والتعبير بالأمر واضح في أن الدجال ليس رجلاً بعينه وإنما هو اتجاه حضاري معاد للاسلام .

" وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، وأن يأمر الأرض أن تنبت فتنبت " وكل هذا وغيره مما هو أهم منه من أنحاء السيطرة على المرافق الطبيعية مما أنتجته الحضارة الأوربية .

ولا يخفى ما في ذلك من الفتنة ، فإن أعداداً مهمة من أبناء الإسلام حين يجدون جمال المدينة الأورتبية ، فأنهم سوف يتخيلون صدق عقائدها وأفكارها ويتكوينها الحضاري بشكل عام . وهذا من أعظم الفتن والأوهام التي يعيشها الأفراد في العصور الحاضرة . وهي غير قائمة على أساس صحيح . إذ لا ملازمة بين التقدم التكتيكي المدني والتقدم العقائدي والفكري والأخلاقي .... يعني لا ملازمة بين الجانب الحضاري والجانب المدني في المجتمع فقد يكون المجتمع متقدماً إلى درجة كبيرة في الجانب المدني ومتأخراً إلى درجة كبيرة في الجانب الحضاري .... كما عليه المجتمع الأوربي . كما قد يكون العكس موجوداً أحياناً في مجتمع آخر .

" وإن من فتنته أن يمر بالوحي فيكذبونه ، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت ، وإن من فتنته أن يمر بالوحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت فتنتب ، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمنه ، وأمدّه خواصراً وأدرّه ضروعاً " .

وهذا يعني على وجه التعيين : أن المكذب للمد المادي الأوربي والواقع أمام تياه يمنى بمصاعب وعقبات ويكون المال والقوة إلى جانب السائرين في ركابها المتملقين لها المتعاونين معها . والتعبير بالحي يعني النظر إلى المجتمع على العموم .

وهذا هو الصحيح بالنسبة إلى المجتمع المؤمن في التيار المادي ، إذ لو نظرنا إلى المستوى الفردي ، فقد يكون في إمكان الفرد المعارض أن ينال تحت ظروف معينة قسطاً من القوة والمال .

صفحة ( 533 )

والدجال أيضاً يدعي الربوبية إذ ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين الخافقين ... يقول : " إليّ أوليائي ، أنا الذي خلق فسوى وقدر فهدى أنا ربكم الأعلى  " .

وكل ذلك واضح جداً من سير الحضارة الأوربية وأسلوبها . فإنها ملأت الخافقين بوسائل الإعلام الحديثة بماديتها ، وعزلت البشر عن المصدر الالهي والعالم العلوي الميتافيزيقي ، فخسرت بذلك العدل والأخلاق والفكر الذي يتكلفه هذا المصدر . وأعلنت عوضاً عن ذلك ولايتها على البشرية وفرضت ايديولوجيَّتها على الأفكار وقوانينها على المجتمعات، بدلاً عن ولاية الله وقوانينه . وهذا يعني ادعاءها الربوبية على البشر أي أنها المالكة لشؤونهم من دون الله تعالى.

ومن الملحوظ في هذا الصدد ، أن الوارد في الخبر أن الدجال يدعي الربوبية ، لا أنه يدعي الالوهية ... والربوبية لا تحمل إلا المعنى الذي أشرنا إليه .

وأما دعوتها ، لأوليائها من أطراف الأرض ، ليتم تثقيفهم الفكري وتربيتهم الأخلاقية والسلوكية تحت إشرافها ،  ولترتبط مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية بها ... فهذا أوضح من أن يذكر أو يسطر .

" ولا يبقى شيء من الأرض إلى وطئه وظهر عليه " وهو ما حدث فعلاً بالنسبة إلى شمل التفكير الأوربي في كل البسيطة . فليس هناك دولة في العالم اليوم لا تعترف بالاتجاهات العامة للفكر والقانون الأوربي . ونريد بأوربا كِلَيْ قسميها الرأسمالي والشيوعي . فان كليهما معاد للاسلام ، وممثل للدجال بأوضح صوره .

وأما استثناء مكة والمدينة من ذلك ، فقد يكون محمولاً على الصراحة ، وقد يكون محمولاً على الرمز . أما حملها على الصراحة ، فيعني أن سكان هاتين المدينتين المقدستين سوف لن يعمهما الفكر الاوربي والمد الحضاري المادي .بل يبقى سكانها متمسكين بالإسلام ، بمقدار ما يفهمونه ، صامدين تجاه الاغراء الأوربي إلى حين ظهور المهدي عليه السلام .

وأما حملها على الرمزية ، فهو يعني أن الفكرة الألهية المتمثلة بمكة ، والفكرة الإسلامية المتمثلة بالمدينة المنورة، لا تنحرف بتأثير المد الاوربي ، بل تبقى صامدة ، محفوظة في أذهان أهلها وإيمانهم . وهذا يدل على انحفاظ الحق في الجملة بين البشر ، وأن الانحراف لا يشمل البشر أجمعين ، وإن كانت نسبة أهل الحق إلى غيرهم ، كنسبة مكة والمدينة إلى سائر مدن العالم كله .

صفحة (534)