مستثنيات الكذب


ما يحتمل استثناؤه وإخراجه عن حرمة الكذب عدة أمور:
الأمر الأول: الإصلاح ولعله أوضح واشهر المستثنيات.
وقد وردت فيه روايات صحيحة وصريحة مضافاً إلى الإجماع. منها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام. قال: المصلح ليس بكذاب( ). وقد استعمل فيها أسلوب (التنزيل) يعني تنزيل الكذب منزلة الصدق. فيكون دليلا على كونه مثله ليس بحرام ولا مستحقاً عليه للعقاب.
والعلة المنصوصة في هذه الصحيحة هي الإصلاح فانه عمل المصلح فقد يقال: ان المصلح كما قد يكون مصلحاً بين فردين أو جماعتين، وهو ما دعوه: بإصلاح ذات البين، كذلك قد يكون في أمور اجتماعية أخرى ليس سببها العداوة المسبقة.
فان قيل: ان القدر المتيقن من الإصلاح هو ذلك، فلا يجوز ان نأخذ مورد الاستثناء من المحرم أكثر منه.
قلنا: نعم، إلا إن إطلاق الرواية أوسع من ذلك، ومن حقنا ان نأخذ بإطلاقها. لان عمل المصلح ان كان هو (الصلح) تعين عرفاً بالعمل الذي تسبقه العداوة. ولا مصداق له غير ذلك. وأما إذا كان عمل المصلح هو (الإصلاح) كما هو واضح عرفاً. فان الإصلاح كما يتم في الصلح يتم في غيره من جهات الإصلاح. فيكون كل كذب لأي إصلاح جائزاً.
فان قلت: ان هذا مقيد في روايات أخرى كخبر عيسى بن حسان( ) قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً إلا كذباً في ثلاثة… إلى ان قال: أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا، يريد بذلك الإصلاح بينهما.
إذن تكون سائر أنحاء الإصلاح الأخرى خارجة من الاستثناء، وداخلة في الحرمة.
إلا أن جوابه: أولا: إن هذه الرواية ضعيفة السند فلا تكون حجة لإثبات المدعي.
ثانياً: إنها وان كانت خاصة إلا لا تنافي ثبوت العام بدليل آخر. لان العام والخاص هنا مثبتين، ومعه يمكن الأخذ بهما معاً مع صحة سندها، وليس بينهما تناف ليحصل التقييد.
وقد يخطر في البال: ان إصلاح ذات البين كذباً أمر غير منتج عملياً، لان (حبل الكذب قصير) كما في المثل، وسيأتي زمن يفتضح فيه الكاذب وينكشف الأمر فيعود العداء بعد الصلح.
وهذا الكلام قريب بالنسبة إلى بعض أساليب الكذب، إلا إن المصلح إذا كان ذكياً وعارفاً بواقعه وبنفوس ذوي العداء، سوف يستطيع ان يكذب بشكل لا يؤدي إلى تلك النتيجة. مضافاً إلى ان الطرفين بعد ان (تورطوا) بالصداقة فمن الصعب عليهم ان يعودوا إلى العداء لمجرد انكشاف كذب المصلح، إلا أن يكون الأمر مهماً جداً في نظرهم وتلك حالات نادرة بلا إشكال.
الأمر الثاني: من مستثنيات حرمة الكذب: المكيدة في الحرب.
ففي رواية عن النبي صلى الله عليه وآله قال: ثلاثة يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب الخ( ) .
غير ان هذه الرواية ضعيفة السند، فيبقى الأمر على الحكم بالحرمة ما لم يكتسب مصلحة دينية خاصة تكون هي احد مستثنيات الكذب مستقلا، كما سيأتي.
الأمر الثالث: كذب الوعد على الزوجة. ففي نفس الرواية قال: وعِدَُتكَ زوجتك. وفي رواية أخرى: أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد ان يتم لهم( ).
ويمكن الجواب على ذلك:
أولا: بضعف سند هذه الروايات فلا تكون حجة ما لم تضم إليها عمل الأصحاب من حيث ان فقهائنا عملوا بها وأفتوا على طبقها بغض النظر عن الجواب الآتي.
ثانياً: ان هذه الروايات إنما تجيز خلف الوعد على الزوجة. وخلف الوعد جائز على الزوجة وغيرها وليس في المقام حكم جديد.
ولعل السبب في التركيز على ذلك في هذه النصوص هو علمهم سلام الله عليهم بمدى الإحراج الذي يقع به الأزواج أمام زوجاتهم من كثرة الطلب والمطالبة.
ومعه فما عليه المشهور بين الناس من حلّيّة الكذب على الزوجة ليس بصحيح فان الكذب الصريح حرام على كل حال.
الأمر الرابع: من المستثنيات: ما تقتضيه المصلحة العامة الدينية أو الدنيوية من استعمال الكذب. لان المصالح العامة تكون أهم في نظر الشارع من الأحكام الفردية. غير ان اختصاص ذلك بالضرورات الاجتماعية هو الأرجح. وأما شموله للمصالح العامة غير الضرورية فمحل إشكال بلا إشكال.
ومعه فما يعتقده الناس من جواز الكذب لمصلحة بحيث يشمل حتى المصالح الشخصية، غير صحيح أساساً. لأنه مشكل في المصالح العامة فضلا عن الخاصة. بل هو في المصالح الخاصة حرام صريح. وهل حرمته الشرعية إلا لهذا ونحوه؟
الأمر الخامس: صورة الضرورة فان أدلة رفع التكاليف في موارد الحرج والعسر والضرر والضرورة والتقية شاملة لحرمة الكذب وغيره. فمع وجود مثل هذه الموارد يكون الكذب جائزاً. من دون ان يخدع الفرد نفسه أو يكذب عليها، فيعتبرها في ضرورة وليست كذلك.
الأمر السادس: ما يحتمل ان يكون مستثنى من حرمة الكذب هو الكذب في الهزل، إذ قد يقال: ان مورد الهزل هين بحيث لا يعتنى به شرعاً إلا أن هذا غير صحيح.
أولا: لكون المورد مشمولا لعموم أدلة تحريم الكذب اعني ما دل على ان كل كذب حرام يعني سواء كان في جد أو هزل.
ثانياً: استفاضة الروايات بالنهي عن الكذب في الهزل بنفسه وقد عقد له الحر العاملي في الوسائل باباً كاملاً.
منها: ما عن أبي عبد الله عليه السلام قال( ) : كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل.
وعن الاصبغ بن نباته( ) قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده.
وفي خبر آخر في وصية النبي صلى الله عليه وآله لأبي ذر منها: وان الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس ليضحكهم فيهوي في جهنم ما بين السماء والأرض. يا أبا ذر ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم. ويل له ويل له ويل له( ) .
إذن، فالكذب في الهزل محرم وليس من المستثنيات. أعاذنا الله من كل خطأ وزلل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله أجمعين.

محمد الصدر