لا يبقى – بعدها – إلا الأعمال التي أعربت عنها أخبار المشاهدة في الغيبة الكبرى ، مما يمت إلى القسمين الأخيرين من التكاليف بصلة ، على ما سنوضح عند دراسة المقابلات في مستقبل هذا التاريخ . فإن هذا العدد من المقابلات لا ينافي غرضه ولا يخل بغيبته .

وأما عمله بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع ، فهذا ما لا دليل على نفيه بحال ، بل استطعنا الاستدلال عليه، كما سبق ، حسبنا من ذلك إمكان العمل بالنسبة إليه ، وعدم منافاته مع غيبته وخفاء عنوانه بحال ، فيكون واجباً عليه، كأي فرد آخر من المسلمين يجب عليه أن يؤدي أي عمل ممكن في مصلحة الإسلام . وهو أعلى وأولى من يلتزم بإطاعة أحكام الإسلام .

ومن هنا لا يمكننا أن نتصوره عليه السلام إلا قائماً بواجبه في أي قسم من الأقسام السابقة اقتضت المصلحة في تنفيذه . كهداية شخص أو جماعة من الكفر إلى الإسلام أو من الانحراف إلى الوعي أو من الظلم إلى الاعتدال ، أو جعل الموانع ضد الظلم القائم في المجتمع ، في تأثيره على الإسلام والمسلمين عامة وضد قواعده العبية خاصة . إلى غير ذلك ، وما أدرانا كيف سيصبح حال المجتمع المسلم لو سحب الإمام (ع) لطفه وكف أعماله . وإلى أي درجة من الضلال والظلم يمكن أن يبلغ .

على أننا نحتمل في كل عمل خيري عام أو سنة اجتماعية حسنة أو فكرة إسلامية جديدة ، أو نحو ذلك من الأمور ... نحتمل أن يكون وراءها أصبع مخلص متحرك من قبل الإمام المهدي (ع) . وأنه هو الذي زرع بذرته الأولى في صدر أو عمل أحد الأشخاص أو الجماعات ... بحيث أنتجت أكلها في كل حين بإذن ربها . وهذا الاحتمال لا نافي له، بتقدير صدق أطروحة خفاء العنوان . ومجرد الاحتمال يكفينا بهذا الصدد ، بصفته أطروحة محتملة تنسجم مع الأدلة العامة والخاصة ، كما ذكرنا في المقدمة .

وهذا هو المراد الحقيقي الواعي من النصوص الواردة عن المهدي (ع) نفسه ، والتي تثبت قيامه بالعمل النافع بوضوح .

صفحة (50)

فمن ذلك قوله المشهور: وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي ، فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب(1). وأضاف عليه السلام : وأني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء .

فالسحاب كناية عن خفاء العنوان . والشمس كناية عن التأثير النافع المنتج في المجتمع . بعد وضوح أن العمل الذي يمكن للمهدي (ع) تنفيذه مع جهل الناس بحقيقته وعنوانه – أي في  غيبته – ، أقل بكثير مما يستطيع القيام به حال ظهوره وإعلان أمره .

وهذا الفهم هو المعين لهذا الحديث الشريف ، بناء على أطروحة خفاء العنوان . لا ما ذكروه(2) من التفسيرات التي يرجع بعضها إلى وجود تشريفي فلسفي للإمام (ع) ، وبعضها إلى أنحاء تقديريه من النفس. وإنما ذكر علماؤنا الأسبقون إنما من باب "ضيق الخناق" وعدم الالتفات إلى هذا الفهم الواعي .

نعم ، يتعين المصير إلى تلك التفسيرات بناء على أطروحة خفاء الشخص . حيث يتعذر العمل على المهدي (ع) إلا بالمقدار القليل الذي تدل عليه أخبار المشاهدة – كما عرفنا – ، مما لا يكاد يكفي أن يكون نفعاً عاماً مشابهاً لنفع الشمس وإن غيبها السحاب . فلا بد – والحال هذه – من الأخذ في فهم النص بتلك التفسيرات . ولكننا حيث قلنا ببطلان هذه الأطروحة ، يتعين أن نأخذ بفهمنا الواعي لهذا الحديث .

ومن ذلك : ما روي عن المهدي (ع) مخاطباً لقواعدة الشعبية : أنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم . ولولا ذلك لنزل بكم الأواء واصطلمكم الأعداء . فاتقوا الله جل جلاله . وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ، يهلك فيها من هم أجله ، ويحمى عنها من أدرك أمله(3) .
ــــــــــــــــــ
(1) الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 284 وغيرها .   (2) انظرها في بيان مفصل لصاحب البحار في جـ 13 ، ص 129 .
(3) الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 323 .

صفحة (51)

ونحن نعلم أن وقوفه (ع) ضد الأعداء ونزول الأواء – وهي الشدائد – ، لا يكون إلا بالعمل المثمر والجهاد الحقيقي على الصعيدين العام والخاص . وخاصة ، وهو يأمرنا بمظاهرته أي معاونته وموافقته على إخراجنا من الفتنة والنجاة من الهلكة . فإن على كل فرد مسؤولية تامة في ذلك، ولا تنحصر المسؤولية بالقائد ، كما هو واضح ، بل أن شعوره بالمسؤولية لا يكاد يكون مثمراً من دون شعور شعبه ورعيته بمسؤوليتهم تجاه قائدهم ومبدئهم أيضاً .

إذن ، فهو عليه السلام يحمل هم شعبه ومواليه ، يتذكرهم دائماً ويعمل على حفظهم ودرء المخاطر عنهم باستمرار، بمقدار ما يمكنه أن يؤديه من عمل ، تماماً كما عرفنا عن آبائه عليهم السلام ، وكما عرفناه في خلال غيبته الصغرى . غاية الفرق أن تلك الأعمال كانت منه ومن آبائه (ع) بالصفة الحقيقية لهم . وأما عمله خلال هذه الفترة، فليست بهذه الصفة ، وإنما بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع .

ولكن الإمام المهدي (ع) يتوخى في موارد عمله وجود شرطين أساسيين ، إن اجتمعا كان في إمكانه أن يتصدى للعمل ، وإن تخلف أحدهما ترك العمل لا محالة وأبقى الواقع على واقعه .

الشرط الأول :

أن لا يؤدي به عمله إلى الكشاف أمره وانتفاء غيبته . إذ من الواضح أن المهدي (ع) حين يقوم بالأعمال العامة الإسلامية ، بصفته فرداً عادياً في المجتمع ، يمكنه أن يستمر بها إلى حد معين ليس بالقليل . ولكنه لو لمع اسمه واشتهر صيته ، بـِ "شخصيته الثانوية" لكان هناك احتمال كبير في انكشاف حقيقته وافتضاح سره . لا أقل من أن ينتبه الناس إلى غموض نسبه وجهالة أصله ، فيوصلوا بالفحص والسؤال إلى حقيقته، أو يحتملوا ذلك على الأقل ، وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون .

إذن فعمل المهدي (ع) لا بد أن يقتصر على الحدود التي لا تؤدي إلى انكشاف أمره ، فيدقق في ذلك ويخطط له ، وهو الخبير الألمعي ويحسب لكل عمل حسابه . وأي عمل علم أن التدخل فيه يوجب الانكشاف انسحب عنه ، مهما ترتبت عليه من نتائج ، لأن انحفاظ سره وذخره لليوم الموعود ، أهم من جميع ما يتركه من أعمال .

صفحة (52)

ولكن هذا لا ينافي تأثيره في الأعمال الإسلامية الخيرة التي نراها سائدة في المجتمع . وذلك لإمكان أن يكون هو المؤثر في تأسيسها حال صغرها وضآلة شأنها ، وقد أودعها إلى المخلصين الذين يأخذون بها ويذكون أوراها ، بدون أن يلتفتوا أو يلتفت إلى حقيقة عمله ، بقليل ولا بكثير .

الشرط الثاني :

أن لا يؤدي عمله إلى التخلف والقصور في تربية الأمة ، أو اختلال شرائط يوم الظهور الموعود .

بيان ذلك : أننا أشرنا أن ليوم الظهور الموعود شرائط سوف نتعرض لها تفصيلاً في مستقبل هذا التاريخ . ولكل شرط من تلك الشروط أسبابه وعلله . تلك الأسباب التي تتولد وتنشأ في عصر ما قبل الظهور . حتى ما إذا آتت أكلها وأثرت تأثيرها بتحقيق تلك الشروط وإنجازها ، كان يوم الظهور قد آن أوانه وتحققت أركانه .

والمهدي عليه السلام ، حيث يعلم الشرائط والأسباب ، مكلف – على الأقل – بحماية تلك الأسباب عن التخلف أو الانحراف ، لئلا يتأخر تأثيرها أو ينخفض عما هو المطلوب إنتاجها . إن لم يكن مكلفاً بإذكاء أوراها والسير الحثيث في تقدم تأثيرها .

ومن أهم شرائط اليوم الموعود : أن تكون الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسؤولية الإسلامية ، والاستعداد للتضحية في سبيل الله عز وجل . أو على الأقل ، أن يكون فيها العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي المهدي (ع) ضد الكفر والانحراف ، ويبني بساعده المفتول الغد الإسلامي المشرق . ويكون الجيش المكون من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الذي يملأ الأرض بقيادة المهدي (ع) قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .

وإذا كان ذلك من الشرائط ، فلا بد من توفر أسبابه في زمن ما قبل الظهور ، في عصر الغيبة الكبرى ، والمحافظة على هذه الأسباب .

صفحة (53)

وإن السبب الرئيسي الكبير لتولد الوعي والشعور بالمسؤولية الإسلامية والإقدام على التصحية لدى الأمة ، هو مرورها بعدد مهم من التجارب القاسية والظروف الصعبة وإحساسها بالظلم والتعسف ردحاً كبيراً من الزمن ... حتى تستطيع أن تفهم نفسها وأن تشخص واقعها وتشعر بمسؤوليتها . فإن هذه الصعوبات كالمبرد الذي يجلو الذهب ويجعل السكين نافذاً . فإن الأمة – في مثل ذلك – لا تخلد إلى الهدوء والسكون ، بل تضطر إلى التفكير بأمرها وبلورة فكرتها وتشخيص آلامها وآمالها وتشعر بنحو وجداني عميق بسهولة التضحية في سبيل الأهداف الكبيرة ووجوبها إذا لزم الأمر ونادى منادي الجهاد .

وتلك الأمة الواعية هي التي تستطيع أن تضرب قدماً بين يدي الإمام المهدي (ع) وأن تؤسس العدل المنتظر في اليوم الموعود . دون الأمة المنحرفة المتداعية ، أو الأمة المنعزلة المتحنثة . وسيأتي لذلك إيضاحات عديدة وسنسمع له شواهد كثيرة من الكتاب والسنة .

فإذا كان مرور الأمة بظروف الظلم والتعسف ضرورياً لتحقيق شرط اليوم الموعود ، ومثل هذا الشرط يجب رعايته والمحافظة عليه ...إذن فالمهدي (ع) بالرغم من أنه يحس بالأسى لمرور شعبه وقواعده بمثل هذه الظروف القاسية،إلا أنه لا يتصدى لإزالتها ولا يعمل على تغييرها، تقديماً لمصلحة اليوم الموعود على أهل العزم هذا اليوم الموجود.

وأما ما لا يكون من الظلم دخيلاً في تحقيق ذلك الشرط ، وكان الشرط الأول لعمل المهدي (ع) متوفراً فيه أيضاً ، فإن الإمام المهدي (ع) يتدخل لإزالته ويعمل على رفعه ، بموجب التكليف الشرعي الإسلامي المتوجه إليه .

ونحن – الذين لا نعيش نظر المهدي (ع) وأهدافه – نكاد نكون في جهل مطبق ، من حيث تشخيص أن هذا الظلم هل له دخل في تحقيق شرط الظهور أو لا . ما عدا بعض موارد التخمين . فإنه يحتاج إلى نظر بعيد يمتد خلال السنين إلى يوم الظهور . وهذا النظر منعدم لدى أي فرد في العالم ما عدا المهدي (ع) نفسه . فيعود تشخيص ذلك إليه ، بما وهبه الله تعالى من ملكات وقابليات على تشخيص الداء والقيادة نحو الدواء.  

صفحة (54)