عدة نقاط :

أود الإشارة في نهاية هذا الفصل إلى عدة نقاط :

النقطة الأولى :

إن ما ذكرناه قبل لحظة ، من وجود بعض أشكال الظلم منتج لشرط يوم الظهور ، وهو وعي الأمة وشعورها بالمسؤولية ... وأن المهدي (ع) لا يقف حائلاً ضد هذا الظلم ولا يعمل على رفعه ... لا يمكن أن ندعي وجوب الاقتداء بالمهدي (ع) في ذلك أو أن لنا به أسوة حسنة في ذلك ، فيجب إهما الظلم يفتك بالأمة بدون أن نحاول إصلاحه أو نحول دون تأثيره . لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً ، للفرق بين تكليفنا الشرعي وتكليفه وبين مسؤوليتنا ومسؤوليته .

بيان ذلك : أن كلا الشرطين اللذين عرفناهما لعمل المهدي (ع) غير موجودين فينا ، فيكون تكليفنا الإسلامي أوسع بكثير من هذه الجهة من تكليف الإمام المهدي (ع) خلال غيبته .

أما الشرط الأول : وهو عدم انتفاء الغيبة والمحافظة على ستر العنوان ... فمن الواضح عدم توفره فينا . بل هو من مختصاته عليه السلام .

وأما الشرط الثاني : وهو ألا يحول العمل ضد الظلم المؤثر في إيجاد شرط الظهور ... فمن الواضح أن المهدي (ع) إذا حال دون تحقق هذا الظلم ، فسوف يحول دون حدوث الوعي عند الأمة ، فيبقى شعورها متبلداً وتربيتها قاصرة، وبالتالي يكون الشرط المطلوب متعذر الوجود .

وأما نحن إذ نشعر بالظلم فنكافح ضده أو نخطط لأجل دحره ودفعه ، لا نكون قد حلنا دون وعي الأمة ، بل أن كفاح الأمة نفسه وجهادها ضد مشاكلها وآلامها من أهم العناصر التي تنظم إلى الشعور بالظلم فتحدث الوعي لدى الأمة يكمل عندها الشعور بالمسؤولية . ذلك العمل الذي يعطي دروساً في التضحية وحنكة في التدبير الاجتماعي ، يؤهل الأمة شيئاً فشيئاً إلى تحقيق الشرط المأمول .

صفحة (55)

ومعه يكون الكفاح ضد الظلم ، بهذا الاعتبار ، فضلاً عن الاعتبارات الأخرى ، لازماً ومطلوباً في الإسلام من كل المسلمين ما عدا المهدي (ع) . نعم ، ستكون الأمة وقائدها متضامنة ضد كل أنواع الظلم بعد أن يحصل الشرط المطلوب ، ويبقى الظلم المتأخر مستأنفاً لا حاجة إليه . فيقوم عليه الإمام المهدي (ع) بالسلاح لإزالته من الوجود. وذلك هو يوم الظهور .

النقطة الثانية :

إن عمل المهدي (ع) في المجتمع ، في حدود ما تقتضيه أطروحة خفاء العنوان ، يمكن أن يتصف بعدة صفات :

فعمله نافذ وناجح ومؤثر دائماً ، وإنما الإخفاق إذا حصل فإنما يحصل نتيجة لقصور أو تقصير غيره في العمل . فأننا لم نفهم أهمية عمله من كونه عضواً في جمعية خيرية مثلاً أو متولياً لوقف عام مثلاً ، وإن كان ذلك ممكناً ومهماً ... إلا أن الأهم من ذلك هو كونه الرائد المؤسس لأعمال الخير العامة ، ودفع الشر والظلم – مما لا يكون مؤثراً في شرط اليوم الموعود – . بمعنى أنه عليه السلام ، بعد أن يعرف أهمية العمل الخير أو أخطار العمل الظالم بالنسبة للمجتمع المسلم ، فأنه يتسبب إلى إيجاد ما هو خير ورفع ما هو ظلم .

وهو بذلك يستعمل حنكته وفراسته لتوخي أقرب الطرق وأصلحها وأكبرها تأثيراً . وقد يسبق عمله وجود العمل الظالم نفسه . كالذي رأيناه من المهدي (ع) نفسه في غيبته الصغرى أكثر من مرة ، حيث سمعناه ينهي وكلاءه عن قبض أي شيء من الأموال ، فامتثلوا أمره من دون أن يعلموا السبب . ثم اتضح أن السلطات قد أمرت بدس الأموال إلى الوكلاء ، فمن قبض منهم مالاً قبضوا عليه(1) . وبذلك فشل هذا المخطط الظالم . ومن يعمل مثل ذلك مرة أو مرات ، يمكنه أن يعمله متى يشاء .

أما لو استلزمت إزالته للظلم ظهوره لبعض الأفراد ، على حقيقته ، فهو مما قد يحصل تبعاً لظروف خاصة وتخطيط خاص ، سوف ندرسه في بعض الفصول المقبلة . وأما إذا لم تتوفر تلك الظروف ترك المهدي (ع) الظلم على حاله، لعدم توفر الشرط الأول من الشرطين السابقين .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 603 .

صفحة (56)

وعلى أي حال ، فبالنسبة إلى العمل الخيِّر الصالح ، يستطيع المهدي أن يقنع فرداً أو جماعة للقيام به ، أو يشجع أناساً مندفعين تلقائياً للقيام بمثله ، ويؤيدهم التأييد الكافي ، ويحاول أن يرفع الموانع عن تقدم عملهم وازدهاره . كل ذلك من دون أن يفترض عضواً فعلياً مشاركاً في شيء من الأعمال . ومعه تكون الأعمال بطبيعتها ، بالرغم مما أوجد لها المهدي (ع) من فرص النجاح ، قابلة للإخفاق أو الضيق تبعاً لقصور أصحابها القائمين بها أو تقصيرهم نفسياً أو عملياً .  

وأما بالنسبة إلى العمل الظالم ، فهو يتسبب إلى رفعه أو التقليل من تأثيره ، إما بمحاولة إقناع الفاعل على الارتداع عنه أو الضغط عليه أو إحراج مصالحه بنحو يصغر معه عمله ويضيق أو بنحو ينعدم تأثيره أساساً . أو بإذكاء أوار الثورة أو الاحتجاج من قبل الآخرين .

النقطة الثالثة :

هناك كلام لرونلدسن حول الإمام المهدي (ع) ، فيما يخص ما نحن فيه من الموضوع . يتبنى المهدي فيه بعدم الالتفات إلى أصحابه وقواعده الشعبية ، وعدم رفع الظلم عنهم . وهو بذلك يريد أن يستنتج عدم وجوده ، إذ لو كان موجوداً فهو شخص يشعر بالمسؤولية والعطف تجاه أصحابه ، فهو لا محالة رافع للظلم عنهم أو مشاركهم في العمل ضده . مع أنه لم يعمل ذلك ، بالرغم من أن المظالم في التاريخ كثيرة وشديدة ، إذن فهو غير موجود .

وهو إن لم يصرح بهذه النتيجة ، ولكنه يوحي بها إيحاء واضحاً ، حين يقول : "وفي القرن التالي لغيبة الإمام استلم البويهيون زمام السلطة الزمنية فبذلوا جهوداً كبيرة لتوحيد الطائفة الشيعية وتقويتها ، كبناء مشاهدها وجمع أحاديثها وتشجيع علمائها ومجتهديها . ومع ذلك فلم يظهر الإمام المنتظر في هذا القرن الذي كانت الطائفة الشيعية تتمتع فيه بحسن الحال" . ومرّ قرن آخر دالت فيه دولة حماة الشيعة من البويهيين ولكن الإمام بقي في (غيبته الكبرى) .

صفحة (57)

ومرّ قرن ثالث يمتاز بالظلم والثورات وتحكم المماليك . ولكن الإمام الذي كانوا يرتجون ظهوره لم يظهر .

وجاء دور الحروب الصليبية التي اشترك (آل البيت) فيها دون أن يكون لهم إمام . فمن الجانب الإسلامي ، كانت السلطة لإعلان الجهاد تنحصر بيد بني العباس والفاطميين المارقين في مقاومة الجيوش الغازية للشعوب المسيحية بالاسم في أوروبا ، ولكن الإمام أخرّ ظهوره .

وبعد مرور أربعة قرون على وفاة آخر الوكلاء في القرن الثالث عشر – يعني الميلادي – ادتاح الغزاة المغول بلاد إيران يقتلون ويهدمون بقساوة لا مثيل لها . وبالرغم من التخريب والآلام فإن (صاحب الزمان) المنتظر بفارغ الصبر لم يظهر .

وحتى في ابتداء القرن السادس على زمن شيوع أذربيجان والدولة الصفوية الجديدة ، لم يتصل الإمام الغائب بشيعته إلا بالطيف ! فكان يظهر لهؤلاء الملوك ، كما يدعون !!(1)

وبالرغم من أن في هذا الكلام عدة نقاط محتاجة لإعادة النظر ، إلا أن المهم الآن مناقشة الإشكال الرئيسي الذي يثيره ، وهو استبعاد وجود الإمام من عدم ظهوره عند الحاجة لأجل رفع الظلم عن قواعده الشعبية خاصة ، والمسلمين عامة .

وقد اتضح الجواب على ذلك مما سبق أن قلناه متمثلاً في عدة وجوه :

أولاً : أننا يجب أن لانتوقع من الإمام المهدي (ع) الظهور الكامل ، تحت أي ظرف من الظروف ، باعتباره مذخوراً لنشر العدل الكامل في العالم كله ، لا لرفع المظالم الوقتية أو الاتصال بأشخاص معينين . وقد عرفنا أن الإسراع بالظهور قبل أوانه يوجب جزماً فشل التخطيط الإلهي لليوم الموعود . لأن نجاحه منوط بشروط معينة وظروف خاصة لا تتوفر قبل اليوم الموعود جزماً . وقد عرفنا أن كل ما أعاق عن نجاحه لا يمكن وجوده بحسب إرادة الله تعالى وإرادة المهدي (ع) نفسه ، مهما كان الظرف مهماً وصعباً .

صفحة (58) 

ثانياً : أننا نحتمل – على الأقل – أن المهدي (ع) يرى أن بعض الظلم الذي كان ساري المفعول خلال التاريخ ، كالحروب الصليبية مثلاً ، غير قابلة للإزالة من قبله حال الغيبة بحال . ولا ينفع التخطيط السري أو العمل الاعتيادي، بصفته فرداً عادياً ، في إزالتها ... لقوة تأثيرها وضرواة اندفاعها . ومعه يصبح الإمام المهدي (ع) حال غيبته عاجزاً عن رفع هذا الظلم ، فيكون معذوراً عن عدم التصدي لرفعه طبقاً للقواعد الإسلامية ولوظيفته الواعية الصحيحة .

ثالثاً : إن جملة من موارد الظلم الساري في المجتمع ، لا يتوفر فيه الشرط الأول من الشرطين السابقين اللذين ذكرناهما لعمل المهدي (ع) ، فلا يعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال . وهو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .

رابعاً : إن جملة من موارد الظلم ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الرطين السابقين اللذين ذكرناهما لعمل المهدي (ع) ، فلا يعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال . وهو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .

رابعاً : إن جملة من موارد الظلم ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الرطين السابقين ، باعتبار أو وجوده سبب لانتشار الوعي في الأمة وشعورها بالمسؤولية الذي هو أحد الشروط الكبرى ليوم الظهور . وقد قلنا بأن مثل هذا الظلم وإن وجب على الأمة الكفاح لإزالته ، إلا أن الإمام المهدي (ع) لا يتسبب لرفعه ، لأن في رفعه إزالة للشرط الأساسي لليوم الموعود ، وهو ما لا يمكن تحققه في نظر الإسلام .

إذن فسائر أنحاء الظلم الساري المفعول في التاريخ لا محالة مندرج تحت أحد هذه الأقسام ، فإذا كان المهدي (ع) قد عمل لإزالتها فقد خالف وظيفته الإسلامية ومسؤوليته الحقيقية ، ولا أقل من احتمال ذلك ، لأجل المهدي (ع) على الصحة .

إذن فليس هناك أي تلازم بين وجود المهدي وبين وقوفه ضد هذه الأنحاء من الظلم والشرور ، حتى يمكن لرونلدسن أن يستنتج من عدم وقوفه ضد الظلم ، عدم وجوده .

وأما الأنحاء الأخرى من الظلم ، فقد قلنا بأن تكليفه الشرعي ووظيفته الإسلامية ، تقتضي وقوفه ضده وحيلولته دونه بصفته فرداً عادياً في المجتمع ، كما أوضحناه . إذن فهو يقف ضد الظلم في حدود الشروط الخاصة الإسلامية، كيف وهو على طول الخط يمثل المعارضة الصامدة ضد الظلم والطغيان .

صفحة (59)