الفصل الثالث


في الحياة الخاصة للمهدي (ع)

وكل ما يعود إلى شخصه عليه السلام من الأمور حال غيبته الكبرى

ويمكن الكلام عن ذلك في ضمن عدة أمور :

الأمر الأول :

هل الإمام المهدي (ع) متزوج وله ذرية أم لا .

ويمكن بيان ذلك على مستويين ، باعتبار ما تقتضيه القواعد العامة ، أولاً ، وما تقتضيه الأخبار الخاصة ثانياً .

المستوى الأول : فيما تقتضيه القواعد العامة المتوفرة لدينا .

وهذا مما يختلف حاله على اختلاف الأطروحتين الرئيسيتين اللتين عرضناهما فيما سبق .

أما الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص ، فهي – بغض النظر عن الأخبار الخاصة الآتية – تقتضي أن لا يكون المهدي متزوجاً ، وأن يبقى غير متزوج طيلة غيبته . ولا غرابة في ذلك ، فإن كل ما ينافي غيبته ويعرضه للخطر يكون وجوده غير جائز ، فيكون زواجه غير جائز ، لوضوح منافاته مع غيبته ولزومه لانكشاف أمره . إذ مع خفاء شخصه لا يمكنه الزواج بطبيعة الحال عادة . أما مع ظهوره وانكشاف أمره ، فهو المحذور الذي يجب تجنبه ويخل بالغرض الأسمى من وجوده .

صفحة (61)

وأما افتراض أنه ينكشف لزوجته فقط ، بحيث تراه وتخالطة من دون كل الناس ، فهو وإن كان ممكناً عقلاً، إلا إنه بعيداً كل البعد عن التطبيق العملي بحيث نقطع بعدم إمكانه . فإن هذه الزوجة يجب أن تكون قبل زاوجها من خاصة الخاصة المأمونين الموثوقين إلى أعلى الدرجات ، بحيث لا يكون في مقابلتها إياه واطلاعها على حقيقته أي خطر . ومثل هذه المرأة تكاد تكون منعدمة بين النساء ، إن لم تكون معدومة فعلاً ... فضلاً عن أن يجد في كل جيل امرأة من هذا القبيل .

إذن فبقاؤه طيلة غيبته أو في الأعم الأغلب منها بدون زواج ، ضروري لحفظه وسلامته إلى يوم ظهوره الموعود، فيكون ذلك متعيناً عليه .. لو أخذنا بالأطروحة الأولى .

وأما على الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، فكل هذا الكلام الذي رأيناه يكون بدون موضوع . فإن المهدي (ع) وإن كان من المتعذر عليه إيجاد الزواج بصفته الحقيقية ، لما قلناه من عدم وجود المرأة الخاصة المأمونة بالنحو المطلوب . ولكن زواجه بصفته فردا ًعادياً في المجتمع ، أو بشخصيته الثانية ، ممكن ومن أيسر الأمور ، بحيث لا تطلع الزوجة على حقيقته طول عمرها . فإن بدا التشكيك يغزو ذهن المرأة في بعض تصرفاته أو عدم ظهور الكبر عليه بمرور الزمان ... أمكن للمهدي (ع) أن يخطط تخطيطاً بسيطاً لطلاقها وإبعاجها عن نفسه ، أو مغادرة المدينة التي كان فيها إلى مكانٍ آخر ، حيث يعيش ردحاً آخر من الزمن ، وقد يتزوج مرة أخرى .. وهكذا .

وإذا أمكن زواجه ، أمكن القول بتحققه ، وإن الإمام المهدي عليه السلام متزوج في غيبته الكبرى بالفعل . وذلك لأن فيه تطبيقاً للسنة المؤكدة في الإسلام والأوامر الكثيرة بالزواج والحث العظيم عليه والنهي عن تركه ، والمهدي أولى من يتبع السنة الإسلامية . وبخاصة إذا قلنا بأن المعصوم لا يترك المستحب ولا يفعل المكروه مهما أمكن ، والتزمنا بعصمة المهدي (ع) كما هو الصحيح . فيتعين أن يكون متزوجاً ، بعد أن توصلنا إلى إمكان زواجه وعدم منافاته مع احتجابه .

وإذا سرنا مع هذا التصور ، أمكن أن نتصور له في كل جيل ، أو في أكثر الأجيال ذرية متجددة تتكاثر بمرور الزمن، ولكنها تجهل بالمرة بأنها من نسل الإمام المهدي (ع) ، لأن لا يكشف حقيقته أمام زوجته وأولاده الصلبيين، فكيف بالأجيال المتأخرة من ذريته .

صفحة (62)

إلا أن أمامنا شيئاً واحداً يحول بيننا وين التوسع في هذا الافتراض ، إن لم يكن برهاناً على انتفاء الذرية أصلاً . وهو : إن وجود الذرية ملازم عادة لإنكشاف أمره والاطلاع على حقيقته . فإن السنين القليلة بل العشرين والثلاثين منها قد تمضي مع جهل زوجته وأولاده بحقيقته ، كما أنه يمكن التخلص من الزوجة حين يبدو عليها بوادر الالتفات . ولكن كيف يمكن التخلص من الذرية ؟! فإنهم أو بعضهم – على أقل تقدير – يكونون أحرص الناس على مشاهدة أبيهم وملاحقته أينما ذهب . ومعه يكون دائماً تحت رقابتهم ومشاهدتهم . ومن ثم لا يمكنه الحفاظ على سره العميق زماناً مترامياً طويلاً . فإنهم بعد مضي الخمسين أو السبعين عاماً ، سوف يلاحظون بكل وضوع عدم ظهور امارات المشيب والشيخوخة على والدهم ، وأنه بقي شاباً على شكله الأول . ومن ثم يحتملون على الأقل كونه هو المهدي (ع) ، أو أنه فرد شاذ لا بد من الفحص عنه والتأكذ من حقيقته .. وبالفحص ومداومة السؤال ، لا بد أن يتوصلوا إلى الاحتمال على أقل تقدير . وهذا مناف مع غيبته وكتمان أمره . وأما لو بقيت ذريته تراقبه ، ولو بشخصيته الثانية ، عدة أجيال ، فيكون انكشاف أمره بمقدار من الوضوح .

وأما افتراض أنه يعيش مع زوجته وأولاده ، ويظهر عليه المشيب فعلاً ، ثم أنه يختفي ويتحول شكله إلى الشباب تارة أخرى عن طريق المعجزة ، لكي يستأنف حياة زوجية جديدة .. وهكذا .. فهو افتراض عاطل ترد عليه عدة اعتراضات أهمها منافاته مع قانون المعجزات ، فإن زواج المهدي ووجود الذرية لديه لا يمت إلى الهداية الإلهية بصلة ، لكي يمكن أن تقوم المعجزة من أجله .

إذن فلا بد من الالتزام بعدم وجود الذرية للمهدي (ع) بالنحو المنافي لغيبته . أما بانعدام الذرية على الإطلاق ، أو بوجود القليل من الذرية التي تجهل حال نسبها على الإطلاق ، كما يجهله الآخرون ، ولعلنا نصادف بعضاً منهم ، ولكن إثبات نسبه في عداد المستحيل .

فالمتحصل من القواعد العامة ، هو أن المظنون أن يكون الإمام المهدي (ع) متزوجاً بدون ذرية . لا لنقص فيه بل ولا في زوجته ، بل لإشاءة الله تعالى ذلك ، أو تعمد المهدي (ع) له ، احتفاظاً بسره ومحافظة على أمره .

صفحة (63)

المستوى الثاني : فيما تدل عليه الأخبار من وجود الزوجة والأولاد للمهدي (ع) . ونحن نواجه بهذا الصدد شكلين أو طائفتين من الأخبار :

الشكل الأول :

الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له، بنحو مجمل من حيث كون ذلك حاصلاً في زمان الغيبة أو بعد الظهور، ومن حيث كونه بعنوانه الواقعي أو بشخصيته الثانية . وسنعرف فيما يأتي أنه لا بد من تخصيص هذه الأخبار ، فيما بعد الظهور ، أو في حال الغيبة بشكل لا يكون سبباً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .

الشكل الثاني :

الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له فيغيبته الكبرى . وهي ثلاث روايات :

الأولى : ما رواه الحاج النوري قدس سره في النجم الثاقب عن كتاب الغيبة للشيخ الطوس وكتاب الغيبة للنعماني . قال : رويا بطريق معتبر عن المفضل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين ، إحداهما تطول حتى يقول بعضهم : مات . وبعضهم يقول : قتل . وبعضهم يقول : ذهب . فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره ، إلا المولى الذي يلي أمره(1) .

الثانية : رواية كمال الدين الإنباري ، التي ينذكر مضمونها في الأمر الرابع الآتي(2) .

الثالثة : رواية زين الدين المازندراني ، وهي مشابهة للرواية الثانية ، من عدة نواحٍ ، على ما سنرى في الفصل الآتي(3) .
ــــــــــــــــــ
(1) النجم الثاقب ، ص 224 وغيبة الشيخ ، ص 102 . (2) النجم الثاقب ، ص 217 .
(3) المصدر ، ص 284 ، وانظر البحار ص .......

صفحة (64)

إلا أن شيئاً من هذه الروايات ، لا يصح الاستدلال به ، بمعنى أنه ، لو تمت من ناحية السند ، لا تكاد تثبت أكثر وأوسع مما اقتضته القواعد العامة التي عرفناها على المستوى الأولي .

أما الرواية الأولى ، فلا تصح لعدة وجوه :

الوجه الأول :

أنه لا دليل على وجود ذكر الولد في هذه الرواية . فإن كلا من الشيخ الطوسي والشيخ النعماني يرويانها بنص واحد، إلا أن الشيخ الطوسي قال : لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره(1) . والشيخ النعماني روى : من ولي ولا غيره(2) . ومع تهافت نسخ الرواية فيما هو محل الشاهد ، لا يمكن المصير إلى الاستدلال بها .

الوجه الثاني :

أنه على تقدير الاعتراف بوجود كلمة الولد في الرواية ، فإنها لا تكاد تدل على أمر زائد على ما اقتضته القواعد بناء على الأطروحة الثانية ، فإنه يمكن أن يكون للإمام المهدي (ع) ذرية لا تعرف حقيقة أبيها ، بمقدار لا يصل الأمر إلى انكشاف أمره وذيوع سره ، كما سبق أن عرفنا . أو يكون المهدي (ع) قد حصل في بعض الأجيال ، على زوجة موثوقة عرفت حقيقته وصانت سره وسترته عن ذريته .

أما وجود ولد أو ذرية يعاشرونه ويعرفونه ، فهو منفي بنص الرواية ، كما هو منفي بمقتضى القواعد . 

ثالثا : أننا نتحمل على الأقل ، أن المراد بقوله : لا يطلع على موضوعه أحد من ولده ولا غيره .. المبالغة في بيان زيادة الخفاء . بمعنى أنه حتى لو كان له ولد أطلع على حقيقته فضلاً عن غير الولد . وهذا بمجرده لا يكون دليلاً على وجود الولد فعلاً ، كما هو واضح . واحتمال هذا المعنى يكفي لإسقاط الاستدلال بالرواية ، فإنه إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال .
ـــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ، ص 102 .  (2) غيبة النعماني ، ص 89 .

صفحة (65)

وأما الروايتان الأخيرتان ، التي سنسمعهما ، فالمقدار المشترك من مدلوليهما ، هو أن المهدي (ع) ساكن خلال غيبته الكبرى في بعض الجزر المجهولة من البحر الأبيض المتوسط .. متزوج وله ذرية . وقد أسس هناك مجتمعاً إسلامياً نموذجياً مكوناً من أولاده والأخيار من أتباعهم وأصحابهم . وهو يعيش في ذلك المجتمع محتجباً ، في الوقت الذي يتولى الرئاسة العامة أولاده وذريته .

وسيأتي التعرض إلى تفاصيل المضمون بمقدار الحاجة ، مع إيضاح نقاط الضعف فيه . ويكفينا في حدود محل الاستدلال المناقشة من ناحيتين :

أولاً : إن كلا الروايتين لا تكادان تصحان أساساً ، لابتنائهما على الأساس الذي تقوم عليه الأطروحة الأولى، كما سنوضحه عند التعرض إلى تفاصيلها . وهو أساس سبق أن أقمنا البرهان على بطلانه .

ثانياً : أنه على تقدير صحتهما ، فهما لا يدلان على شيء زائد مما اقتضته القواعد العامة . فإن غاية ما تدلان عليه هو افتراض أن الإمام المهدي (ع) قد وجد في بعض الأجيال إمرأة صالحة موثوقة عرفته وسترت أمره وحجبته عن ذريته . وقد علم ذريته بانتسابهم إليه من دون أن يروه أو يعرفوا مكانه . وبالجملة يكفي في صدق هاتين الروايتين وقوع الزواج للمهدي (ع) مرة واحدة خلال الأجيال ، وهو مما لم تنفه القواعد العامة ، كما هو معلوم .

إذن فلم نجد من الروايات ، ما يصلح للاستدلال به على مضمون زائد على ما عرفناه في القواعد العامة .

الأمر الثاني :

في مكان المهدي (ع) في غيبته الكبرى .

سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) ، أن المهدي (ع) قال لمحمد بن إبراهيم بن مهزيار حين قابله: يا ابن المازيار ! أبي أبو محمد عهد إلي أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم . وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها ، ومن البلاد إلا عفرها ... الخ كلامه.
ــــــــــــــــــ
(1) انظر ص 582 وغيرها .

صفحة (66)