وهو دال على تعيين مكان المهدي (ع) في البراري والقفار النائية .. سواء في ذلك
عصر غيبته الصغرى ، وعصر غيبته الكبرى . وسواء أخذنا بأطروحة خفاء الشخص أو
أطروحة خفاء العنوان . فإنه منسجم مع كلتا الأطروحتين.
إلا أننا ذكرنا أن هذا وإن كان محتملاً في نفسه ، إلا أنه مناف مع أعداد من
الروايات الدالة على وجوده بكثرة في أماكن أخرى . أهمها روايات المشاهدة في
الغيبة الصغرى وأخبار المشاهدة الكبرى .. إلا على بعض الفروض النادرة أو
الإعجازية التي نحن في غنى عن افتراضها ، والمهدي (ع) في غنى عن اتخاذها، فإن
المعجزة لا تقع إلا عند توقف إقامة الحجة عليها ، كما سبق .
فإذا تجاوزنا هذه الرواية يبقى الكلام في تشخيص مكان المهدي (ع) تارة بحسب
القواعد العامة التي تقتضيها الأطروحتان الرئيسيتان ، وأخرى بحسب الأخبار الخاصة
التي يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد .
أما الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص .. فهي تقتضي الجهل المطبق بمكانه عليه
السلام ، إلا ما يكون عند مشاهدته حين تقتضي المصلحة لذلك .
وأما الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، فقد سبق أن أوضحنا إمكان أن يعيش
الإمام المهدي (ع) في أي مكان شاء ويذهب إلى أي مكان يريد ، من الحواضر أو
البوادي من البر أو البحر أو الجو ، من دون أن يلفت إلى نفسه نظراً أو يكشف سراً
. كما اوضحنا أنه لا ينبغي أن نتصور له مكاناً واحداً مستمراً أو غالباً طيلة
غيبته ، لأن ذلك ملازم عادة لالتفات الناس إلى حقيقته وانتقاء غيبته .. بل هو –
لا محالة – يوزع سكناه بين البلدان ، لكي يبعد عن نفسه الشكوك .
وأما بحسب الروايات الخاصة ، فنواجه منها عدة أخبار :
الأول : خبر المفضل بن عمر ، السابق الذي يقول فيه : لا يطلع على موضعه أحد من
ولده ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره .
الثاني : رواية كمال الدين الإنباري ، التي أشرنا إليها .
الثالث : رواية زين الدين المازندراني ، السابقة .
صفحة (67)
وتشترك هاتان الروايتان في بيان أن المهدي (ع) يسكن في بعض الجزر المجهولة في
البحر الأبيض المتوسط . وكأن في هذا تطبيقاً لما ورد في رواية ابن
مهزيار من أنه لا يسكن في الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها ، وأن لا يجاور
قوماً غضب الله عليهم ولعنهم !
وقد سبق أن ذكرنا ، وسيأتي أيضاً ، بأن هاتين الروايتين مبتنيتان على الأساس الذي
تبتني عليه الأطروحة الأولى، ومعه تكون باطلة وغير معتبرة جملة وتفصيلاً .
الرابع : ما ورد عن أبي بصير عن الإمام الباقر (ع) إنه قال : لا بد لصاحب هذا
الأمر من عزلة ، ولا بد في عزلته من قوة . وما بثلاثين من وحشة . ونعم المنزل
طيبة(1) .
ويشترك هذا الخبر مع الخبر الأول في الدلالة على انعزال الإمام المهدي (ع) وبعده
عن الناس ، ويتعارضان من حيث أن الأخير يثبت أن جماعة من الناس في كل جيل يعرفون
المهدي ويتصلون به ويرفعون عنه الوحشة ، وهذا ما ينفيه الخبر الأول بوضوح حيث
يقرر عدم إطلاع أحد على موضعه حتى ولده ، إلا المولى الذي يلي أمره . ويستقل
الخبر الأخير على تعيين مكان المهدي (ع) في طيبة ، وهي مدينة الرسول الأعظم صلى
الله عليه وآله .
فهذه نقاط ثلاث ، ينبغي أن يقع الكلام عنها ، ويحسن من أجل ضبط السياق ، أن نبدأ
بالأخيرة .
النقطة الأولى :
حول ما دل عليه خبر أبي بصير من سكنى المهدي في مدينة الرسول (ص) .
وهذا أمر ينافيه ما ورد في خبر إبن مهزيار من اختصاص مكان المهدي (ع) في البراري
والقفار . كما ينافي ما ورد في أخبار المقابلات في الغيبتين الصغرى والكبرى ، كما
ذكرنا ، من وجود المهدي (ع) في أماكن أخرى من العالم . ومع هذه المنافاة لا تكاد
تكون رواية أبي بصير قابلة للإثبات أو الاستدلال .
ــــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ، ص 102 .
صفحة (68)
ولو غضضنا النظر عن ذلك ، لم نجد أن سكناه المدينة مناف للقواعد العامة التي
عرفناها .. سواء أخذنا بأطروحة خفاء الشخص أو بأطروحة خفاء العنوان . أما على
أطروحة خفاء الشخص ، فمن الممكن أن نفترض سكناه حال خفائه في المدينة نفسها ،
بدون لزوم أي إشكال أو صعوبة .
وأما على أطروحة خفاء العنوان ، فينبغي أن نخص هذه السكنى بما إذا لم تستلزم
إنكشاف أمره أو إلتفات الناس إلى سره . لما سبق أن عرفناه من أن يعود إلى سكناها
بين جيل وجيل أو نحو ذلك ، بحيث لو راجعنا المعدل العام لزمان الغيبة الكبرى ،
رأينا مكانه الأغلب هو المدينة المنورة . وقد سبق أن عرفنا أن مثل هذا الأسلوب في
سكنى المدن لا يكون مظنة للإنكشاف .
ولعل هذا الأنسب بحال المهدي (ع) واتجاهه ، من حيث أنه يود مجاورة قبر جده الأعظم
رسول الإنسانية (ص) ، والقرب إلى مكان الج ليستنى له القيام به كل عام . وبخاصة
وإن أغلب سكان المدينة المنورة في أغلب أجيال التاريخ الإسلامي ، إن لم يكن كلها
، من المنكرين لوجوده أصلاً .. وهو مما يسهل له الحفاظ على خفاء عنوانه ودوام
غيبته .
النقطة الثانية :
فيما تختلف فيه الروايتان من المضمون ، حول أن المهدي (ع) هل يعاشر بعض الناس
أولاً .
وعند الموازنة بين الأمرين ، لا بد من عرضهما على القواعد العامة اليت عرفناها .
وسوف تختلف نتيجة الموازنة طبقاً للأطروحتين الرئيسيتين السابقتين : أما لو أخذنا
بأطروحة خفاء الشخص ، فسوف يرجح الأخذ برواية المفضل بن عمر . وإن لم تكن مطابقة
لها تماماً لدلالة الرواية على انكشاف المهدي (ع) للمولى الذي يلي أمره ، وهو
يُنافي الالتزام الكامل بهذه الأطروحة . وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان،
فسوف يرجح الأخذ برواية أبي بصير ، وإن لم تكن مطابقة لها تماماً لدلالة الرواية
على انحصار العارفين بالمهدي (ع) والمعاشرين له بثلاثين ، في كل جيل ، بحيث
لولاهم لكان في وحدة موحشة .
صفحة (69)
|