الفصل الرابع


في مقابلاته عليه السلام خلال غيبته الكبرى والمصالح والأهداف التي يتوخاها من ورائها

وينبغي أن ننطلق إلى الحديث عن ذلك في ضمن جهتين رئيسيتين ، باعتبار انقسام الحديث ، تارة إلى ما تقتضيه القواعد العامة من ذلك ، وأخرى إلى ما تدل عليه الروايات الناقلة لتفاصيل المقابلات .

الجهة الأولى :

فيما تقتضيه القواعد العامة من خصائص المقابلات :

ويقع الكلام في ذلك ، ضمن أمور :

الأمر الأول :

في أنه هل يرى المهدي (ع) على الدوام ، بحيث تستطيع أن تقابله وتحادثه متى سنح لك ذلك ، أو لا .

يختلف الجواب على مثل هذا السؤال ، نتيجة للأخذ بإحدى لأطروحتين الرئيسيتين السابقتين . فإن رأينا صحة أطروحة خفاء الشخص ، كان الجواب بالنفي لا محالة ، ما لم تتعلق مصلحة خاصة وإرادة من قبل المهدي (ع) في الظهور والمقابلة .

صفحة (89)

وقد سبق أن أشرنا أنه باء على الأخذ بهذه الأطروحة يكون الشيء الدائم هو الاختفاء الإعجازي ، وما هو الاستثناء هو الظهور الطبيعي المتقطع القليل وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان ، وهي التي اخترناها واستدللنا على صحتها ، فهنا مستويات ثلاثة للمقابلة :

المستوى الأول :

مقابلة المهدي (ع) بشخصيته الثانية ، حال كونه مجهول الحقيقة مغفولاً عنه بالمرة .

وهذا المستوى متوفر دائماً للناس الذي يعايشونه في مجتمع أو الذين يصادفونه في أي مكان كان . طبقاً لمفهوم هذه الأطروحة .

المستوى الثاني :

مقابلة المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، مع عدم الالتفات إلى ذلك إلا بعد انتهاء المقابلة .

وهذا المستوى هو الذي سارت عليه المقابلات الاعتيادية المروية ، على ما سنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل مشفوعاً بالتبرير النظري له .

المستوى الثالث :

مقابلة المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، مع الالتفات إلى ذلك في أثناء المقابلة . وهذا المستوى قليل في روايات المشاهدة جداً ، باعتبار كونه مخالفاً في الأغلب للمصلحة ، ومنافياً للغيبة التامة ، على ما سنسمع.

الأمر الثاني :

في كيفية المقابلة معه عليه السلام .

ويختلف ذلك أيضاً باختلاف الأطروحتين الرئيسيتين :

أما بناء على الأخذ بالأطروحة الأولى ، فتحتاج المقابلة إلى عدة معجزات ، بعد أن عرفنا أن مفهوم هذه الأطروحة يتضمن الاختفاء الإعجازي الدائم . ولا يمكن أن تحدث المقابلة مع استمرار الاختفاء بطبيعة الحال ، إذن فلا بد من حدوث عدة معجزات لإتمام الغرض من المقابلة .

المعجزة الأولى :

ظهوره بعد استمرار الاختفاء بكل استثنائي ، اقتضته مصلحة خاصة . وهذا الظهور يقطع الحالة الإعجازية الدائمة للاختفاء ، فيكون هو معجزة أيضاً .

صفحة (90)

المعجزة الثانية :

إقامة الحجة القاطعة على إثبات حقيقته وأنه هو المهدي (ع) . بحيث يثبت ذلك ولو بعد انتهاء المقابلة .

وهذه المعجزة ضرورية لإثبات حقيقته ، بعد العلم أن الرائي جاهل بالمرة بشكل الإمام المهدي (ع) وسحنته. ومن الواضح أنه لا يكفي للرائي مجرد إدعاء كونه هو المهدي المقصود ، بل يحتاج لا محالة إلى إقامة الحجة بالمعجزة لإثباته .

المعجزة الثالثة :

اختفاؤه بعد الظهور ، وعوده إلى حالة الاختفاء الأولى بعد أن يكون قد أنجز المطلوب من المقابلة .

فهذا ما تحتاجه المقابلة لو صحت الأطروحة الأولى .

وأما لو أخذنا بالأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، التي تقول : بأن الشيء الدام بالنسبة إلى المهدي (ع) هو الظهور الشخصي مع خفاء العنوان ، كما سبق أن أوضحناه ... فالمعجزة الأولى لا حاجة لها على الإطلاق . بل حسب المهدي (ع) أن يقابل الفرد كأي إنسان آخر ، وينجز ما هو المطلوب من مقابلته ، ويعرفه بحقيقته ، ولو بحسب النتيجة ، أي ولو بعد المقابلة .

كما لا حاجة ، في الأعم الأغلب إلى المعجزة الثالثة ، أعني الاختفاء بعد المقابلة . بل يكون ذهاب المهدي (ع) بعد انتهائها طبيعياً ، ولو بتخطيط مسبق يقوم به المهدي (ع) لأجل تنفيذ  الذهاب بشكل لا يكون ملفتاً للنظر .

نعم ، لو وقع الإمام في ضيق وحرج عند مقابلته ، بحيث تعرضت غيبته العامة إلى الخطر ، كان لا بد له من الإخفاء الإعجازي ، وهو مطابق – في مثل ذلك – لقانون المعجزات ، لأن في حفظ غيبته تنفيذاً لليوم الموعود .

وأما المعجزة الثانية ، وهي التي تثبت بها حقيقته ... فهي مما لا بد منه في الأعم الأغلب جداً من المقابلات . لما أشرنا إليه من أن الفرد حيث لا يعرف المهدي بشخصه ولا يكفيه مجرد دعوى كونه هو المهدي (ع) ، كان لا بد من إقامة الحجة لإثبات صدقه ، والحجة لا تكون إلا بالمعجزة ، ومن هنا كانت هذه المعجزة مطابقة لقانون المعجزات.

صفحة (91)

نعم ، قد يستغنى أحياناً عن هذه المعجزة ، فيما إذا كان الشخص الرائي ممن يعرف المهدي (ع) بشخصه وعنوانه. كما لو كان رآه في مرة سابقة وقامت الحجة لديه على حقيقته ، ثم رآه ثانياً وعرفه ، فلا حاجة به إلى إقامة الحجة تارة أخرى . ومعه يكون لقاؤه مع المهدي عليه السلام طبيعياً جداً ، من دون أن تقع أي معجزة .

والمثال الواضح لذلك هو السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى . فإنهم يعرفون المهدي (ع) بشخصه وعنوانه ، ويأخذون منه التوقيعات . ومثاله في الغيبة الكبرى ما يظهر من بعض الروايات أن الخاصة من المخلصين يجتمعون بالمهدي (ع) ويعرفونه ، على ما سيأتي . كما يظهر من بعض الروايات أن السيد مهدي بحر العلوم كان كذلك أيضاً، على ما سنسمع في أخبار المقابلات .

الأمر الثالث :

ماهي المصالح المتوخاة والأهداف المطلوبة للمهدي عليه السلام من مقابلته للآخرين ، بمقدار ما تهدينا إليه القواعد العامة . وسنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل تفاصيل ذلك وتطبيقاته .

وما ينبغي أن يكون هدفاً له عليه السلام من المقابلات ، هو قيامه بالمسؤولية الإسلامية ، بأحد الأنحاء التي سبق أن ذكرناها في الفصل الثاني من هذا القسم من التاريخ ... فيما إذا انحصر تنفيذها على المقابلة مع الآخرين بالشخصية الحقيقية ، ولم يمكن القيام بها حال الاستتار والجهل بالعنوان . وكانت الواقعة مشمولة للشروط التي ذكرناها في ذلك الفصل لعمله الإسلامي المثمر في المجتمع ، سواء على الصعيد الخاص أو الصعيد العام .

فقد يكون هدفه إنقاذ شخص من ضرر وقع عليه أو إنقاذ مجتمع من تعسف ظالم عليه . أو هداية شخص وتقويمه من الانحراف العقائدي أو الكفر أو الانحراف السلوكي ، أو الدفاع عن شخص أو مجتمع ضد الانحراف ، أو نحو ذلك من الأهداف التي كنا قد حملنا عنها فكرة فيما سبق ... مع توفر شروط العمل فيها لا محالة .

صفحة (92)

الأمر الرابع :

في كيفية حضور الإمام المهدي (ع) للمقابلة الصريحة ، مع الآخرين .

وإنما يثار التساؤل عن ذلك ، باعتبار ما قد يخطر في الذهن من أنه إذا كان الشخص الذي يريد المهدي (ع) مقابلته بعيداً عنه ، بحيث يحتاج إلى سفر طويل . فما الذي يمكن له أن يفعله . وذلك بعد الالتفات إلى نقطتين :

النقطة الأولى :

إن بعد المسافة هو الغالب في موارد عمل الإمام عليه السلام ، لأنها متفرقة على وجه البسيطة . ومن هنا يضطر الإمام إلى السفر المتطاول دائماً لقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم .

النقطة الثانية :

أنه قد يكون في كثرة الأسفار خطر على غيبته ومظنة لانكشاف أمره ، وخاصة بعد أن فرض العمل عن طريق المقابلة بالشخصية الحقيقية .

والجواب على ذلك يكون بإعطاء عدة أساليب ممكنة للمقابلة ، وتذليل الصعوبة المشار إليها في السؤال . مع الاعتراف أنه إذا لم يكن شيء منها ممكناً ، وكان فيها خطر على غيبته ، فإن عليه السلام لا يمارس العمل ، لأن العمل نفسه وإن فرض جامعاً للشرائط ، إلا أن الطريق إليه متعذراً ومقدماته خطرة ، وإيجاد العمل بدون مقدماته ممتنع . إذن فينسد باب العمل جزماً .

وتتلخص الأساليب المحتملة في عدة وجوه تختلف باختلاف الموارد :

الوجه الأول :

أننا لا حاجة لأن نفترض كون الشخص الذي يريد المهدي مقابلته بعيداً . بل يمكن أن يكون قريباً ، يعيش في نفس المجتمع الذي يعيش المهدي (ع) فيه ... فلا يحتاج إلى سفر أو مضي مدة . سواء كان المهدي (ع) يعيش في ذلك المجتمع مختفياً ، طبقاً للأطروحة الأولى ، أو ظاهراً مجهول العنوان ، طبقاً للأطروحة الثانية . 

ومعه لا مجال للسؤال عن صعوبة المقابلة بأي حال .

صفحة (93)