وباستعراض هذه الأهداف ، نفهم بوضوح ، مطابقتها لما ينبغي أن يكون هدفه طبقاً للقواعد المامة . حيث ذكرنا أن مقتضاها هو عمله في تطبيق جملة من التعاليم الإسلامية مما يمكنه تطبيقه في أثناء الغيبة ، وكل هذه الأهداف التي استعرضناها لا شك كونها تطبيقات أمينة للتكاليف التي يمكنه تطبيقها في هذه الفترة ... وقد عرفنا أقسامها في بحث سابق .

الأمر السابع :

في أنه هل هناك أشخاص يرون الإمام المهدي (ع) ويعرفونه على حقيقته ، على مر الزمان ، أو ما داموا الحياة ، أو ليس هناك أحد من هذا القبيل .

ويمكن أن نتحدث عن ذلك على ثلاثة مستويات :

المستوى الأول :

فيما هو مقتضى القواعد العامة من ذلك .

وفي هذا الصدد ، يكون بالإمكان أن يقال : أنه بعد أن علمنا أن أحد الأسباب الرئيسية لاحتجاب المهدي (ع) هو الخوف على نفسه من القتل ، بمعنى ضوررة بقائه إلى اليوم الموعود ، فلو كان مكشوفاً معروفاً ، لقتله الأعداء ، كما قتلوا آباءه عليه السلام ، ولتعذر تنفيذ اليوم الموعود بنص القرآن الكريم ، وقد دلت على ذلك بعض الروايات.

فمن ذلك ما رواه الصدوق في إكمال الدين(1) بسنده إلى زرارة بن أيعن قال سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول : إن للقائم غيبة قبل أن يقوم . قلت : ولم ذلك جعلت فداك ؟ قال : يخاف ... وأشار بيده إلى بطنه وعنقه .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين المخطوط .

صفحة (130)

وما رواه أيضاً بسنده إلى محمد بن مسلم الثقفي "الطحان" قال دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وآله . فقال لي مبتدئاً : يا محمد بن مسلم أن في القائم من آل محمد شبهاً من خمسة من الرسل ... إلى أن قال : وأما شبهه من موسى فدوام خوفه وطول غيبته الخ الحديث(1) .

وقال الشيخ الطوسي قدس سره : مما يقطع على أنه سبب لغيبة الإمام هو خوفه على نفسه من القتل بإخافة الظالمين إياه ، ومنعهم إياه من التصرف فيما جعل إليه التدبير والتصرف فيه(2) .

إذا عرفنا ذلك ، أمكن القول أن الغيبة والاحتجاب تدور مدار الخوف ، على الدوام . فمتى كان الخوف موجوداً كانت الغيبة سارية المفعول ، ومتى ارتفع الخوف ، لم يكن ثمة موجب للغيبة .

وارتفاع الخوف أما أن يكون ارتفاعاً كاملاً مطلقاً ، عند توفر العدة والعدد للمهدي عليه السلام ، فيوجب ارتفاع الغيبة والظهور الكامل حيث يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . وأما أن يكون ارتفاعه بالنسبة إلى شخص أو إلى جماعة فيوجب ارتفاع الغيبة عنهم خاصة ، ومن هنا يمكن للواحد منهم أن يرى المهدي (ع) ويعرفه بحقيقته على طول الخط .

وهذا ما يحدث للخاصة من الموثوقين الكاملين الناجحين في التمحيص الإلهي بالمعنى الذي سنسمعه في مستقبل هذا التاريخ . حيث لا يكون هناك احتمال القتل أو الوشاية أو التصريح أو التلميح على كل حال .

وقد يكون ارتفاع الخوف ، منحصراً في ساعة من الزمن ، فترتفع الغيبة خلال هذه الساعة ، وهذا ما يحدث في المقابلات التي سمعناها . ولكن قد يكون ارتفاع الغيبة مشروطاً بعدم اطلاع الرائي على الحقيقة إلا بعد الفراق ، كما رأينا في أغلب المقابلات .

ومعه فمن الممكن القول أن أي فرد يبلغ مرتبة الكمال المطلوب في التمحيص الإلهي ، فإنه يرى المهدي (ع) ويعرفه بحقيقته ، كما يرى أي شخص آخر . وإن كان هذا مما لا يمكن الاطلاع عليه من قبل الآخرين، لمدى التزام هؤلاء الناس بالكتم المطلق والسرية التامة .
ــــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه .   (2) الغيبة : للشيخ الطوسي ، ص 61 .

صفحة (131)  

ويمكن الاستدلال في هذا الصدد ، بما دل من الروايات بأن المهدي (ع) في تقية حتى يأذن الله تعالى له بالظهور التام . كالذي أخرجه الشيخ(1) بسنده عن علي بن إبراهيم بن مهزيار في مقابلته للمهدي (ع) أنه قال له فيما قال : والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي ، فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي ، فأخرج ، الخبر .

فإن التقية معناها اتقاء الضرر ، وهذا إنما يكون فيما إذا كان هناك خوف الضرر أو احتاله ، وأما في الأشخاص الموثوقين الكاملين ، فلا يوجد هذا الاحتمال ، فيرتفع سبب التقية ويكون الاحتجاب بلا موجب .

كما يمكن الاستدلال في هذا الصدد بما دل على أن المهدي (ع) بعيد خلال غيبته عن دار الظالمين ومجاورة المنحرفين ، كالذي ورد في نفس خبر علي بن إبراهيم ابن مهزيار السابق من قول الإمام المهدي (ع) : يا ابن المازيار ، أبي أبو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب أليم . الخبر .

حيث عرفنا فيما سبق أن مجاورة المنحرفين بالشخصية الثانية لا محذور فيها ولا خطر منها ، وإنما تكون المجاورة معهم خطراً ، فيما إذا كانوا عارفين بحقيقة المهدي (ع) مطلعين على صفته الواقعية ، لأنهم حينئذ لا محالة يقتلونه على أي حال . إذن ، فمن لا يوجد في حقه هذا الاحتمال ، لا موجب للبعد عنه وترك مجاورته مع المعرفة بالحقيقة ، فإنه إذا ارتفع السبب ارتفع موجبه لا محالة . وذلك لا يكون إلا في الاصة الكاملين في الوثاقة والإيمان .

وهناك أشكال أخرى من الروايات ، يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد ، نعرض عنها توخياً للاختصار .

وإذا تمّ لدينا أن مقتضى القاعدة هو عدم احتجاب المهدي (ع) عن خاصته ، أمكن لنا أن نفهم المستويين الآتيين على هذا الضوء .
ـــــــــــــــــ
(1) الغيبة ، ص 161 .

صفحة (132)

المستوى الثاني :

ما دل من أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى ، على وجود مرافق أو عدد من المرافقين مع المهدي عليه السلام ، كالقصة الثامنة والثالثين(1) والقصة الثالثة والثمانين(2) ، مما ذكره الحاج النوري في نجمه الثاقب ، ورواية اسماعيل بن الحسن الهرقلي(3) التي دلت على أنه رأى ثلاثة فرسان كان أحدهم المهدي عليه السلام بدلالة أقامها له ، وفيها دلالة على أن الفارسين الآخرين كانا يعرفان حقيقته بكل وضوح .

ومن ذلك ما دل على أن بعض الخاصة الموثوقين ، كانوا يرون المهدي (ع) ويعرفونه أينما صادفوه ، كالسيد مهدي بحر العلوم ، كما يظهر من الحكاية الثالثة والسبعين(4) من النجم الثاقب ، والقصتين اللتين يليانها .

ومن ذلك ما دل على أن المهدي (ع) يستصحب معه خاصته في أسفاره ويشركهم في أعماله . كالخبر الذي أرويه عن سيدنا الأستاذ آية الله السيد محمد باقر الصدر عن أستاذه وأستاذنا آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي ، وهما من أعاظم علماء العصر ومحققيهم أدام الله ظلهما عن أحد المؤمنين يسميه السيد الخوئي ويوثقه ويصفه بأنه من الإيمان والورع على حد عظيم وهو صاحب القصة ، وحيث أنها غير موجودة في المصادر فيحسن في هذا الصدد إعطاء نبذة كافية عنها .

كان هذا الرجل في أحد ال أيام عصراً في مسجد الكوفة ، وبينما هو يمشي محاذياً لغرفه المنتشرة في حائط سوره، رأى في إيوان كائن إمام أحد الغرف فراشاً مفروشاً وقد استلقى عليه شخص مهيب جليل ، وجلس بإزائه رجل آخر. قال : فتعجبت من وجودهما وسألت الرجل الجالس عن هذا المستلقي فأجاب : سيد العالم. قال : فاستهونت بجوابه وحسب أنه يريد كونه سيداً عالماً ، لأن العامة هناك ينطقون العالم بفتح الالم .
ــــــــــــــــــ
(1) ص 305 .  (2) ص 354 .   (4) ص 348 .
(3) انظر كشف الغمة ، ص 283 وما بعدها . وينابيع المودة ، ط النجف ، ص 546 . وكتاب المهدي ، ص 143.

صفحة (133)

ثم أن هذا الرجل مضى للوضوء والاشتغال بصلاة المغرب والعشاء والتهجد في محراب أمير المؤمنين عليه السلام، حتى اجهده التعب والنعس ، فاستلقى ونام . وحينما استيقظ وجد المسجد مضيئاً يقول : حتى أني أستطيع أن أقرأ الكتابة القرآنية المنقوشة في الطرف الآخر من المسجد . فظننت أن الفجر قد بزغ ، بل مضى بعد الفجر زمان غير قليل ، وأني تأخرت في النوم زائداً عن المعتاد .

فخرجت إلى الوضوء فوجدت في الدكة التي في وسط المسجد جماعة مقامة للصلاة ، يؤمها "سيد العالم" ويأتم به أناس كثيرون بأزياء مختلفة وجنسيات فعجبت من وجود هؤلاء في المسجد على خلاف العادة .

ثم أني أسبغت الوضوء والتحقت بالجماعة ، وصليت الصبح معهم ركعتين ، وحين انتهت الصلاة ، قام ذلك الرجل المشار إليه وتقدم إلى أمام الجماعة : سيد العالم ، وسأله عني قائلاً : هل نأخذ هذا الرجل معنا ؟ فأجاب سيد العالم: كلا ، فإن عليه تمحيصين لا بد أن يمر بهما .

وفجأة ، اختفى هذا الجمع ، وساد المسجد ظلام الليل ، وإذا بالفجر لم يبزغ بعد ، بل بقي إليه زمان ليس بالقليل .

وهذه القصة تدلنا على أمور عديدة ، يهمنا فعلاً منها أن هؤلاء الخاصة الذين جمعهم المهدي (ع) من محتلف أنحاء المعمورة ، استطاع أن يشركهم في أعماله وأسفاره ، بعد أن نجح كل فرد منهم في التمحيص الإلهي نجاحاً كاملاً . وأما صاحبنا راوي القصة ، فهو بالرغم من سمو كعبه في التقوى ، فإنه لم يبلغ تلك المنزلة الرفيعة ، التي بلغها هؤلاء ، ومن ثم رفض المهدي (ع) اشراكه في أعماله ، بل لعل الرجل لم يعرف حقيقة الأمر إلا بعد انتهائه .

وهذا مطابق لما قلناه على المستوى الاول ، من أن الموثوق الكامل ، لا يكون المهدي (ع) محتجباً عنه ، ولا غائباً بالنسبة إليه ، وإن كان لا يمكن أن نلم بذلك إلماماً .

صفحة (134) 

المستوى الثالث :

ما دل من الروايات على أن مع المهدي (ص) حال غيبته فرداً أو أكثر ، ممن يقوم بخدمته ويؤدي بعض مهماته ، ويندرج في ذلك عدة روايات سبق أن سمعنا بعضها : منها : رواية المفضل بن عمر السابقة عن أبي عبدالله (ع) حيث يقول عن المهدي (ع) فيما يقول : لا يطلع على موضعه أحد من ولد ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره(1) .

وهذا واضح جداً في وجود خادم له يرعى شؤونه الخاصة ، ويعرفه على حقيقته . ويمكننا أن نفهم ، انطلاقاً من طروحة خفاء العنوان ، أن المهدي (ع) يعيش بشخصيته الثانية في المجتمع ، وبشخصيته الحقيقية مع خادمه . فقوله : لا يطلع على موضعه يراد به موضعه بصفته الحقيقية . ولا بد أن نفترض حتماً إن هذا الخادم من الموثوقين الكاملين ، الذين لا يمكن أن يصرحوا بذات نفوسهم مهما كلفهم الأمر .

ومنها : رواية أبي بصير السابقة عن أبي جعفر (ع) قال : لا بد لصاحب هذا الأمر من عزلة ولا بد من عزلته في قوة ، وما بثلاثين من وحشة ، ونعم المنزل طيبة(2) .

فإن ظاهرها كون هؤلاء الثلاثين من الخاصة المطلعين على حقيقته . وإن كانت مخالفة لأطروحة خفاء العنوان ، من حيث دلالتها على عزلة المهدي (ع) عن المجتمع ، بحيث لولا هؤلاء الثلاثين نفراً لكان ينبغي أن يستوحش من الانفراد . على حين تقول هذه الأطروحة أن المهدي (ع) يعيش في المجتمع كفرد عادي غير منعزل ، ولا موجب للوحشة سواء عرفه البعض أو جهلوه . وليس هذا مهماً ، بعد أن استدللنا على هذه الأطروحة بما فيه الكفاية بحيث لا يقوم ضدها مثل هذا الخبر .

هذا هو الكلام في الجهة الثانية من الفصل الرابع . وهي في الحديث عن الأخبار الخاصة الدالة على مشاهدة المهدي (ع) في غيبته الكبرى .

وبهذا ينتهي هذا الفصل الرابع ، من هذا القسم من التاريخ .
ــــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 102 . (2) نفس المصدر والصفحة .

صفحة(135)