الفصل الخامس


في مراسلة المهدي (ع) للشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي قدس سره  

فقد تفرد الطبرسي في الاحتجاج بذكر كتابين أرسلهما الإمام المهدي (ع) إلى الشيخ المفيد ، يتضمنان بعض المطالب الصحيحة الواعية ، وبعض التنبؤات الرمزية على ما سنذكر .

وينبغي أن نتحدث عن هاتين الرسالتين ضمن عدة نواحٍ :

الناحية الأولى :

فيما ينبغي أن نعامل به هاتين الرسالتين ، بحسب القواعد العامة ،من حيث سندهما تارة ومن حيث مداليلهما أخرى. ومن هنا يقع الكلام في أمرين :

الأمر الأول :

في سند هاتين الرسالتين .

والملاحظ في هذا الصدد أن الطبرسي ذكرهما بدون سند ، ولم نجدهما في المصادر المتأخرة عنه فضلاً عن المتقدمة عليه . فهما روايتان مرسلتان وغير قابلتين للإثبات التاريخي من هذه الناحية .

إلا أن الذي يرجح الأخذ بهما عدة أسباب :

السبب الأول :

إرسال الطبرسي لهما إرسال المسلمات ، مما يدل أنه كان معتقداً بصحة سندهما ، وربما يكون قد حذفه لمدى شهرته ووضوحه ، كما فعل في كثير من روايات كتابه ، وإن كانت مصادر هذه الإسناد قد تلفت في العصور المتأخرة عنه . وهذا السبب يعطي ظناً كافياً بصحة السنة ، وإن كان لا يبلغ حد الإثبات التاريخي .

صفحة (137)

السبب الثاني :

تضمن الروايتين ، على ما سنسمع لتوجيهات عالية وتنبؤات صادقة . بحيث لو كنا علمنا بها قبل وقوع الحوادث المذكورة فيها ، لجزمنا بعدم إمكان صدورها إلا عن المهدي (ع) .

السبب الثالث :

إن المصلحة العامة تقتضي صدور هذه الرسائل ، في أول زمان الغيبة الكبرى ، وذلك لإحراز مصلحتين :

المصلحة الأولى :

إعطاء المهدي (ع) لقواعده الشعبية القواعد العامة والمفاهيم الأساسية التي ينبغي أن يعرفها الناس وتكون سارية المفعول خلال عصر الغيبة الكبرى . بحيث لولاها لكان من المحتمل أن يُساء التصرف في الدين ، وينغلق باب الوصول إلى الأهداف المطلوبة في الإسلام .

ومن الطبيعي أن يكون إبلاغ هذه القواعد والمفاهيم ، موقوتاً في أول الغيبة الكبرى ، لئلا يمر زمان كبير والناس غافلون عن مثل هذه التوجيهات .

المصلحة الثانية :

إعطاء المهدي (ع) القيادة الرئيسية من الناحية الإسلامية بيد العلماء الصالحين ، بعد أن انسحب هو منها من الناحية العملية ، وانتهى السفراء الخاصون أيضاً . فكان أهم العلماء الصالحين في ذلك العصر ، هو الشيخ المفيد، ومن هنا وجّه الرسالة إليه ، ليكون هو – بصفته عالماً صالحاً – المنطلق الأول لانتشار التعاليم العليا والتوجيهات الرئيسية .

صفحة (138)

وهذا خط كان قد بدأه الإمام العسكري (ع) حين أرسل لابن بابويه رسالة يعبر عنه بقوله : يا شيخي يا أبا الحسن. كما سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) .

وحيث نعلم أن الأسلوب الطبيعي لإيجاد هاتين المصلحتين ، منحصر بطريق المراسلة ، كما كان عليه الحال خلال الغيبة الصغرى ، يكون الظن عندئذ بصدور الظن أن هاتين الروايتين يصلحان للإثبات التاريخي ، بالرغم من الإرسال الذي يتصفان به .

الأمر الثاني :  في مداليل هاتين الرسالتين :

ينقسم مدلولهما – بشكل رئيسي – إلى قسمين :

القسم الأول :

التوجيهات العامة التي يذكرها الإمام لقواعده الشعبية ، وكلها صحيحة ومتينة ، ما عدا أمور قليلة لا تخلو من المناقشة ، على ما سوف نشير . ولا يضرنا ذلك حتى لو أنكرنا صحة هذه الأمور ، فإن إنكار البعض لا يقتضي إنكار الكل ، كما سبق أن أكدنا عليه .

القسم الثاني :

التنبؤات بوقوع حوادث قريبة أو بعيدة بالنسبة إلى زمن صدور الرسالة . ويغلب على عبارات هذه التنبؤات، شكل الرمزية والغموض والكلية في المدلول ، بحيث يصعب تشخيصها علينا ، ونحن بهذا البعد الكبير ، وما لم نجده فالواقع الذي نحسه هو أن من قرأه في ذلك الزمن فهمه حق فهمه ، وخاصة وهو يعيش الحوادث ، التي أشار إليها المهدي في كتابه .

والرسالتان ، كما عرفنا ، غير خاصة بالشيخ المفيد ، وإن كان هو المرسل إليه ، وإنما هي عامة لكل الخواص من المؤمنين بالمهدي (ع) . ومعه لا تكون الحوادث المذكورة في الخطاب خاصة بالسنين التي عاشها الشيخ المفيد ، بل لعل عدداً من الحوادث كانت سوف تحصل بعد وفاته ، وبذلك ينفتح لنا مجال واسع للتعيين التاريخي للحوادث .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر : ص 196 منه .

صفحة (139)

الناحية الثانية :

في بيان تاريخ صدور هذين الخطابين من حيث الزمان والمكان ، ونحو ذلك .

أما الرسالة الأولى فقد وصلت في أخواخر شهر صفر عام 410 ، أي قبل ثلاثة أعوام تقريباً من وفاة المرسل إليه الشيخ المفيد الذي توفي عام 413(1) .

والرسالة الأخرى مؤرخة في عام 412 أي قبل وفاته بعام واحد . ويكون قد مر ما يزيد على الثمانين عاماً بقليل على وفاة الشيخ علي بن محمد السمري ،السفير الرابع .. أي على انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى عام 326(2) .

وذكر موصل الكتاب الأول : أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز(3) . فنعرف من ذلك أن المهدي (ع) كان في ذلك الحين في نواحي الحجاز ، وقد أرسل هذه الرسالة من هناك بيد بعض خاصته .

والرسالة الثانية مؤرخة في غرة شوال(4) من العام المشار إليه . وقد وصلت يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة في نفس العام(5) أي أنها بقيت في الطريق ، إلى المرسل إليه ثلاثة أشهر إلا سبعة أيام .

وكلا الخطابين مكتوبان بإملاء المهدي (ع) وخط غيره من بعض ثقاته ، كما يظهر من الرسالة الأولى ، وتنص عليه الرسالة الثانية . ولكنهما معاً مذيلان بأسطر قليلة بخط الإمام نفسه ، يشهد فيها بصحة هذا الكتاب ، ويأمر الشيخ المفيد بإخفاء الرسالة تاماً عن كل أحد . ولكن عليه أن يكتب عنها نسخة ليطلع عليها الموثوقين من أصحابه أو يبلغه لهم شفاها ليعملوا بما فيه .
ــــــــــــــــــ
(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 313 .  (2) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 413 .  (3) الاحتجاج ، جـ2 ، ص 318 .
(4) المصدر ، ص 325 .  (5) المصدر ، 324 .

صفحة (140)

الناحية الثانية :

في بيان نبذة عن الظروف التاريخية التي صدر في غضونها هذان الخطابان . بحسب ما دلنا عليه التاريخ الإسلامي العام . فإن ذلك مما سنحتاجه لدى الخوض في تفسير ما ذكره الخطاب من التنبؤات .

ويمكن تلخيص الكلام في هذه الظروف التاريخية في عدة نقاط :

النقطة الأولى :

كانت البلاد الإسلامية في ذلك الحين تعاني التفكك والتفسخ المؤسف ، في أواخر عهد البويهيين في بلاد فارس ، ورجوع أمرهم إلى القتال بين أمرائهم وقوادهم ، وبينهم وبين الأتراك الحاكمين لخراسان وما وراء النهر ، بعد الدولة السامانية .

وكان أمر الأندلس قد آل إلى التفرق والانحلال عام 407(1) . وأما مصر فقد استقل بها العلويون "الفاطميون" أولاد المهدوي الإفريقي . وكان أن توفي الحاكم بأمر الله عام 411 وولي بعده ابنه الظاهر(2). وتكاد مصر أن تكون أكثر البلاد استقراراً بأيديهم .

وأما الشمال الإفريقي ، فقد آل إلى التفرق وتنابذ الأمراء بعد أن غادره المعز لدين الله إلى مصر عام 341(3) حيث أسس الدولة الفاطمية فيها . وكان في الشمال الإفريقي حرب عام 406 ، تكشفت عن فوز أميرها باديس ، وخلفه بعده موته في نفس العام ابنه المعز(4) حتى مات عام 413(5) .
ــــــــــــــــــ
(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 290 .  (2) المصدر ، ص 304 .  (3) الكامل ، جـ 6 ، ص 341 .
(4) المصدر ، جـ 7 ، ص 279 .  (5) المصدر ، ص 313 .

صفحة (141)