وأما بغداد ، فلا زالت منذ عام 381 بيد القادر بالله العباسي . وكان قد رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام قبل خلافته ، وهو يقول له : هذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه ، فأحسن إلى ولدي وشيعتي(1).

وكانت نقابة العلويين هناك قد صارت إلى الشريف المرتضى علم الهدى ، بعد وفاة نقيبها محمد بن الحسين الشري الرضي عام 406(2) .

حتى مكة لم تنج من الاغتشاش ، ففي عام 414 في النفر الأول يوم الجمعة ، قام رجل من مصر بإحدى يديه سيف مسلول وفي الأخرى دبوس وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بالدبوس . وقال : إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي ، فليمنعني مانع من هذا ، فإني أريد أن أهدم البيت . فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه ، وكاد يفلت.فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله وقطعه الناس واحرقوه . وقتل ممـن اتهم بمصاحبته جماعة واحـرقوا(3) .

ولم تنج بغداد من اختلاط الأمور ، عام 416 بيد السراق والعيارين(4) وعام 417 بيد الأتراك حتى أحرقوا المنازل والدروب(5) .

النقطة الثانية :

كان أثر هذه الفتن سارياً إلى الحج نفسه ، فقد كان يعاني الحجاج صعوبات جمة ، إلى حد قد ينقطع الحج بالكلية ، كما حدث عام 401(6) وعامي 410 و 411(7) وعام 416(8) وعام 417(9) وعام 418(10) على التوالي .
ــــــــــــــــــ
(1) المصدر ، ص 149 .   (2) المصدر ، ص 281 .   (3) الكامل ، جـ 7 ، ص 314 .  (4) المصدر ، ص 423 .
(5) المصدر ، ص 325 .  (6) المصدر ، ص 256 .  (7) المصدر ، ص 310 . (8) المصدر ، ص 324 .
(9) المصدر ، ص 327 .  (10) المصدر ، ص 330 .

صفحة (142)

وكانت هناك سعايات حسنة عام 412 لأجل سلامة الحجاج(1) من قبل صاحب خراسان محمد بن سبستكين الملقب بيمين الدولة .

النقطة الثالثة :

أنه كانت تقع حوادث مؤسفة بين أهل الإسلام من المذاهب المختلفة .

والسبب الرئيسي في ذلك : هو أن الحكم كان محسوباً على الشيعة منذ تأسيس الدولة البويهية في فارس والعراق والدولة الحمدانية في حلب . وكان البويهيون هم المسيطرون على استخلاف الخليفة واستيزار الوزير . وكانوا يعطون لأهل مذهبهم الحرية الكاملة في إقامة شعائرهم والقيام بأعيادهم ومآتمهم . وكان هذا يحدث أثراً سيئاً لدى ذوي المذاهب الإسلامية الأخرى ، ولم يكن لديهم حكم مباشر ليتوقعوا من الحاكمين أن يحولوا دون هذه المظاهر .

فكان الشعب نفسه هو الذي يحاول أن يحول دون ذلك ، وخاصة حين يجد من الشيعة اندفاعاً طائفياً مؤسفاً، اغتناماً لفرصة الحرية المعطاة لهم . فكانت أيام المناسبات العامة تشهد حرباً عامة بين أهل الإسلام . ولعمري لو كان كال فريق منهم يشعر بمسؤوليته الإسلامية وإخوته الدينية ، لما عمل ما عمل ، ولما صدر منه ما صدر ، ولله في خلقه شؤون .

ولم يكن أهل المذاهب الأخرى ، ليجدوا الفرصة المواتية ، حال قوة الدولة البويهية وجبروتها . وإنما انفسح لهم المجال بشكل واضح في الفترة التي نؤرخ لها ، باعتبار ما آل إليه أمر البويهيين من التفرق والانحلال .

ولسنا نريد أن نطيل في وصف الحوادث . وحسبنا أن نعرف ، أنه قد حدث في بغداد في يوم عاشوراء عام 406 حوادث مؤسفة(2) ،وفي العام الذي يليه في واسط(3) وفي شمال إفريقيا حيث قتلت جميع الشيعة،كما ذكر التاريخ(4).
ــــــــــــــــــ
(1) المصدر ، ص 310 .  (2) الكامل ، جـ 7 ، ص 281 .  (3) المصدر ، ص 295 . (4) المصدر ، ص 294 .

صفحة (143)

وكذلك في بغداد في عام 408 أيضاً(1) واشتد عام 409 وحتى أدى إلى نفي أبي عبدالله النعمان الشيخ المفيد من بغداد(2) . وتكرر مثل ذلك في الكوفة عام 415(3) وفي بغداد أيضاً عام 422(4) .

النقطة الرابعة :

كانت الطبيعة أيضاً تشارك في الحوادث ، وكأنها تظهر الأسف على الظلم الساري على الأرض .

ففي عام 401 انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه . وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً ، وغرق كثير من بغداد والعراق(5) .

وفي عام 406 وقع بالبصرة وما جاورها وباء شديد ، حتى عجز الحفارون عن حفر القبور(6) وفيها نزل في حزيران مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد(7) .

وفي رمضان من عام 417 انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض ، فسمع له دوي عظيم (8) .

وفي العام الذي يليه سقط في العراق جميعه بَرَد يكون في الواحدة رطل أو رطلان ، وأصغره كالبيضة ، فأهلك الغلات ، ولم يسلم منها إلا القليل(9) .

وفي نفس العام في آخر تشرين الثاني ، هبت ريخ باردة في العراق جمد منها الماء والخل وبطل دوران الدواليب في جدة(10) .
ــــــــــــــــــ
(1) المصدر ، ص 299 .  (2) المصدر ، ص 300 .  (3) المصدر ، 316 .  (4) المصدر ، ص 355 . (5) المصدر ، ص 256 .
(6) المصدر ، ص 281 .  (7) المصدر والصفحة .  (8) المصدر ن ص 327 .  (9) المصدر ، ص 330 .  (10) المصدر والصفحة .

صفحة (144)

وفي عام 421 سقط في البلاد بَرَد عظيم ، وكان أكثر في العراق فقلعت شجراً كباراً من الزيتون من شرقي النهروان وألقته على بعد من غربيها . وقلعت نخلة من أصلها وحملتها إلى دار بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دور ، وقلعت سقف المسجد الجامع ببعض القرى(1) .

الناحية الرابعة :

في استعراض نص الرسالة الأولى :

"للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبدالله محمد بن محمد بن النعمان ، أدام الله أعزازه ، من مستودع العهد المأخوذ على العباد .

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد ، سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين ،المخصوص فينا باليقين .فأنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأل الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين .

ونُعلمك – أدام الله توفيقك لنصرة الحق ، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق - : أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قِبَلَك ، أعزهم الله بطاعته ، وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته . فقف – أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه – على ما أذكره وأعمل على تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله .

نحن وإن كنا ناوين(2) بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين ، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين . فأنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنا شيء من أخباركم ، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .
ــــــــــــــــــ
(1) المصدر ، ص 343 .   (2) في المصدر : ناوين بالنون الموحدة والظاهر كون ثاوين بالثاء المثلثة .

صفحة (145)

أنا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم الأواء , وأصطلمكم الأعداء . فاتقوا الله جل جلاله ، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ، يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله . وهي إمارة لأزوف حركتنا ومبّاثتكم بأمرنا ونهينا . والله متم نوره ولو كره المشكرون .

اعتصموا بالتقية ، من شب نار الجاهلية ، يحششها عصب أموية ، يهول بها فرقة مهدية . أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن وسلك في الطعن منها السبل المرضية .

إذا حل جمادي الأولى من سنتكم هذه ، فاعتبروا بما يحدث فيه ، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه .

ستظهر لكم في السماء آية جلية ، ومن الأرض مثلها بالسوية . ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق. ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق ، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق . ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار ، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار .

ويتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق . ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق ، شأن يظهر على نظام واتساق .

فليعمل كل أمرءٍ منكم بما يقربه من محبتنا ، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا ، فإن أمرنا بغتة فجأة ، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابه ندم على حوبة .

والله يلهمكم الرشد ، وبلطف لكم في التوفيق برحمته .

وبعده يلي توقيع الإمام المهدي (ع) في ذيل الكتاب ، كما أشرنا إليه في الجهة الثانية من هذا الفصل(1) .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 323 .

صفحة (146)