السبب الثالث :

العامل الأخروي المتمثل بالطمع بالثواب الذي رصده الله  تبارك وتعالى للمطيعين ، والخوف من العقاب الذي توعد به العاصين والمذنبين .

وهناك فرق أساسي في طرق إيجاد هذه الأسباب . فالسببان الأول والأخير يوجدان بالتربية النظرية فقط ، ويتحققان بمجرد الفات الفرد إليهما وتصديقه بصحتهما . وأما السبب الثاني ، فالبرهنة النظرية عليه غير كافية بطبيعة الحال، بشكل ينتج الإخلاص والوعي الحقيقيين والاستعداد للتفاني في سبيل العدل المطلق .... في سبيل الله تعالى . بل يحتاج ذلك إلى تمرين طويل الأمد وتجربة وممارسة .

ومن هنا تنبثق أهمية هذه التجربة والممارسة في تربية الإخلاص بشكل خاص ،  والتكامل بشكل عام ... بصفة إحدى المقدمات الأساسية والأسباب الرئيسية لإيجاد المجتمع العادل ، الذي يتحقق فيه الغرض الأساسي لإيجاد البشرية .

النقطة السادسة :

إن التجربة والممارسة التي عرفنا أهميتها في تربية الإخلاص والإندفاع إلى الطاعة ، إذا لاحظناها على أساس فردي لم تكتسب أهمية أكثر من انتاج الإخلاص والتكامل للفرد الواحد . وأما إذا لاحظناها على أساس عام ، وقلنا أن المجتمع بصفته مكوناً من أفراد ، والأمة بصفتها مكونة من مجتمعات ، يجب أن تمر بدور التربية والتجربة التي تنمي فيها روح الإخلاص والطاعة تجاه تعاليم الله عز وجل .

إذن تكتسب تربية الأمة والتجربة التي يجب أن يمر بها الأمة نفس الأهمية الكبرى ، باعتبارها مقدمة حقيقية للغرض الالهي الكبير من إيجاد الخليقة . فإذا علمنا ـ كما سبق ـ أن الله تعالى يفعل أي شيء يكون مقدمة لوجود غرضه الأساسي .... إذن فهو ـ بكل تأكيد ـ سوف يخطط لتربية الأمة على هذا الطريق .

وقد يخطر في الذه هذا السؤال : إن هذه التربية حين تكون مقدمة للغرض الالهي ، ويكون الغرض مهماً بحيث عرفنا أنه يمكن إقامة المعجزات في سبيل التمهيد إليه . فلماذا لا توجد هذه التربية في ربوع الأمة دفعة واحدة عن طريق المعجزة ؟

صفحة (208)

والجواب على هذا السؤال يكون من وجوه ثلاثة :

الوجه الأول :

إن إيجاد الإيمان والإخلاص في أنفس الأفراد بطريق المعجزة ، يؤدي بنا إلى القول بأن الله تعالى يجبر الأفراد على الطاعات وترك المعاصي وهذا مبرهن على بطلانه وفساده في بحوث العقائد الإسلامية .

الوجه الثاني :

إن هذا الأسلوب المقترح من المعجزة ينافي قانون المعجزات ، إذن فلا يمكن وجود مثل هذه المعجزة .

والسبب في ذلك هو أن قانون المعجزات ، كما عرفناه ، يقضي بعدم قيام المعجزة ما لم يكن قيامها طريقاً منحصراً لإقامة الحجة وهداية البشرية . وأما إذا كانت للنتيجة المطلوبة أساليب طبيعية غير إعجازية ، كان عدم قيام المعجزة حتمياً ، وأوكل الله تعالى إيجاد النتيجة إلى أسبابها الطبيعية نفسها ، مهما طال الزمن بهذه الأسباب والنتائج. فإن الله تعالى طويل الانات ولا يفرق في ذاته مرور الزمان .

فإذا طبقنا ذلك على مورد حديثنا ، وجدنا أن لتربية الأمة أسباب طبيعية سوف نعرض لها في النقطة الآتية ، يمكن أن تنتج نتائجها خلال زمان طويل . ومعه يكون عدم قيام المعجزة لإيجاد تلكم النتائج الحتمية .

الوجه الثالث :

أننا لو تنزلنا ـ جدلاً ـ عن الوجهين السابقين. وقلنا بإمكان تربية الأمة عن طريق المعجزات . فيكون الأمر دائراً ومردداً بين تربية الامة عن هذا الطريق أو تربيتها عن الطريق الطبيعي . عندئذ يمكن القول : أن الأهداف التربوية التي يمكن إيجادها بالطرق الطبيعية أفضل بكثير من الأهداف التربوية التي يمكن إيجادها بالمعجزات . ولا تتحقق العبادة الكاملة المطلوبة لله عز وجل إلا باختيار أفضل الفردين . ومن هنا لا بد من الالتزام بعدم قيام المعجزات لأنها الطريق الأردأ في تربية الأمة .

صفحة (209)

والسبب في ذلك : هي أن التربية إن وجدت بطرقها الطبيعية ، كانت متضمنة لمرتبة عالية من الرشد والنضج من الناحية السلوكية والعقائدية ، لأن من الطرق الطبيعية للتربية ـ على ما سنعرف ـ التمحيص والاختبار ، والمرور بالتجارب القاسية . فإذا خرج الفرد من التمحيص والتجربة ناجحاً منتصراً ، كان إخلاصه قد اكتسب نضجاً ورشداً لم يكن في السابق ، باعتبارأن الفرد أصبح يعرف ما هي ردود الفعل المطلوبة تجاه المصاعب ، وما هي قيمة العدل في حل مشاكل البشرية بإزاء الحلول الأخرى الفاشلة التي عرضها الآخرون . وكل ذلك لا يكون إلا خلال ردح طويل من الزمن .

بخلاف المعجزة ، فإنها إن أحدثت المجتمع الصالح ، فإنها لا يمكن أن توجد نضجه ورشده بأي حال ، بل سوف يكون مجتمعاً فجاً وعدلاً صورياً بطبيعة الحال . ما لم تفترض أمور أخرى إضافية كنزول الوحي على كل أفراد الأمة ... أو نحو ذلك مم الم تقم عليه الدعوة الالهية على طول خط التاريخ الطويل .

النقطة السابعة :

في محاولة التعرف على الأسباب الطبيعية للتربية وإيجاد الإخلاص .

تتوقف التجربة والممارسة التي يجب أن تمر بها الأمة في تربيتها الطويلة ... على أحد عاملين :

العامل الاول :

التطبيق الفعلي الحي للمجتمع العادل المطلق ، حتى يراه الناس ويحبوه ويقدموا مصالحه العامة على مصالحهم الخاصة . فإن شعور الناس بوجود العدل المطلق مبطقاً على وجه الأرض ، يكفي بمجرده في توجيه عواطف الناس وصهر إخلاصهم إلى حد بعيد .

صفحة (210)

العامل الثاني :

مرور الأمة خلال تربيتها بعوامل صعبة وظروف ظالمة عسرة ، تجعلها تتوفر شيئاً فشيئاً على التعمق الفكري والعاطفي ، وتصوغ منها في نهاية المطاف أمة شاعرة بالمسؤولية قوية الإرادة والعزم على تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة .

وذلك بعد أن تعيش الأمة الشعور بأمرين مقترنين :

أحدهما : الشعور بأفضلية الأطروحة العادلة ، لا بشكل نظري فحسب ، بل بشكل حسي معاش . بعد أن تمت المقارنة لدى الأمة بكل وضوح بين هذه الأطروحة وبين سائر النظم والقوانين والنظريات المخالفة لها . وثبت بالتجربة فشل سائر النظم والنظريات ، وأدائها إلى أنواع مختلفة من الظلم والتعسف . باعتبار النقص الذاتي الموجود في سائر النظم ، ذلك النقص الذي تبرأ منه وتعلو عليه الأطروحة الكاملة .

ثانيهما : الشعور بأهمية التضحية الحقيقية على مختلف المستويات في سبيل الأطروحة الكاملة التي يؤمنون بها . والإحساس المباشر بلزوم الصبر والمثابرة والصمود أمام القوى الظالمة تمسكاً بالحق .

وبالرغم من صحة العاملين كليهما وأثرهما الأكيد في تربية الأمة . إلاّ أننا إذا فرضنا كلاً منهما معزولاً عن الآخر، نجد أن العامل الثاني أهم من الأول من جهتين أساسيتين :

أولاً : إن محبة الأطروحة العادلة والإخلاص لها عند تطبيقها ، أمر موافق للهوى والمصالح الشخصية ، لأنها تضمن للإنسان سعادته ورفاهه الفردي والإجتماعي .

وأما محبة الأطروحة العادلة في ظروف الظلم والتضحية ، فهي محبة واعية عميقة تدفع الإنسان إلى المكافحة والجهاد في سبيل إيجاد الواقع الإجتماعي العادل .

ومن المعلوم أن المحب المخلص على الشكل الأول ، إذا لم يمر بتجارب التضحية ، يكون مهدداً بالإنحراف والإرتداد عند مواجهة أول صعوبة يجابهها ، يشعر خلالها بالتنافي بين مصالحه الخاصة والمصالح العامة . فإذا كانت هذه الظاهرة عامة بين الأفراد ... لم يكن ذلك التطبيق قابلاً للاستمرار والبقاء . ولا يمكن أن تكون هذه الظاهرة عامة بأي حال لو كان الإخلاص ناتجاً عن تضحية وصمود .

صفحة (211)

ثانياً : نعرف مما تقدم أن العامل الثاني يجب أن يكون متقدماً زماناً على العامل الأول ، باعتبار توقف التطبيق الحقيقي عليه . فإن العدل لا يكون عميقاً وأساسياً في المجتمع ، ما لم يكن كل الأفراد أو جلهم ـ على أقل تقدير ـ ممن شحذت اخلاصه التجارب ورفعت إيمانه وإرادته التضحيات ، فإنهم يكونون أقدر على العمل وأسرع انتاجاً وأكثر تحملاً للصعوبات ، مما يجعل العدل أعمق أثراً وأضمن للبقاء والاستمرار .

إذن فالغرض الالهي في إيجاد البشرية ، يتوقف وجوده على الإخلاص المنصقل  بالتجارب والتضحيات . ومن المعلوم أن هذا الصقل لا يمكن حصوله إلا بالمرور في تيار التجارب والتضحيات نفسه . وهذا التيار ليس إلا الظروف الصعبة والأزمنة المظلمة الظالمة التي تمر بها البشرية خلال الأجيال .

إذن يتبرهن بكل وضوح توقف الغرض الالهي في هداية البشر وإيجاد مجتمع العبادة الكاملة ... على مرور البشرية في ظروف صعبة ظالمة ، ليكونوا عند ابتداء التطبيق على مستوى المسؤولية المطلوبة للعدل ، ويستطيعون بجدارة القيام به وبسهولة الانسجام معه .

النقطة الثامنة :

أنه من هذا المنطلق بالذات نعرف أهمية التمحيص والاختبار الذي دلت عليه الأخبار ، كما سوف نسمع ، وارتباطه الأساسي بالتقديم للهدف الالهي الكبير :

باعتبار أن ما تعيشه البشرية من ظروف ظالمة من ناحية وأمور مغرية من ناحية أخرى .... وكم للخوف والإغراء من قوة في الإندفاع ومن تأثير على النفس ... فيكون ذلك حاملاً للفرد على الإنحراف عن الله تعالى والخروج على تعاليمه العادلة. ويصبح تطبيق هذه التعاليم على نفسه وغيره من أصعب الامور ، كما قد وصف في بعض الأخبار ، بأنه كالقبص على الجمر .

ومن هنا تكون هذه الظروف ومحاولة هذا التطبيق محكاً أساسياً لمدى الإخلاص وقوة الإرادة لدى الأفراد . فينهار العدد الإغلب من البشر في أحضان الظلم والإغرا ، تبعاً لضعف إرادتهم ، وتقديم مصالحهم الشخصية وراحتهم القريبة على الأهداف الكبرى والغايات القصوى .

صفحة (212)

ويبقى العدد الأقل صادمين مكافحين ، تشتد إرادتهم وتقوي عزيمتهم ، ويشعرون باللذة والفخر في مكافحة تيارات الإنحراف والفساد . ولا يزالون في تكامل وصمود حتى يبلغوا مستوى المسؤولية الكبرى في مواجهة العالم بالعدل المطلق في اليوم الموعود .

ويكون العالم عند تمخض قانون التمحيص هذا عن نتائجه كما نطقت به الأخبار ... متكوناً من فسطاطين أو معسكرين : فسطاط كفر لا إيمان فيه وفسطاط إيمان لا كفر فيه  . على ما سنسمع في الناحية الثانية من هذا الفصل .

فإن قال قائل : كيف يمكن التوفيق بين ما قلناه قبل قليل من لزوم كون الأمة بشكل عام ، المتمثلة في أكثر أفراده، مخلصة إخلاصاً حقيقياً نتيجة للتجربة والتمحيص . وبين ما قلناه الآن من أن أغلب الناس سوف ينهارون تجاه الظلم والإغراء ولا يبقى من ذوي الإخلاص الحقيقي إلا القليل .

نقول في جواب ذلك : أنه يمكن القول أن النتائج الصالحة للتمحيص لا تختص بالقليل من البشر ، وإن اختص هؤلاء بدرجات رفعية من الإخلاص لا يضارعهم بها غيرهم من الناس .

فإننا يمكن أن نرتفع بنتائج التمحيص ، من الزاوية التي نتوخاها الآن ، إلى أربع درجات :

الدرجة الأولى :

الإخلاص التام والوعي الكامل . الذي يتمثل باستعداد الفرد بالتضحية بكل عال ورخيص على الإطلاق في سبيل العدل الالهي وتطبيق تعاليم الرب العظيم وأهدافه الكبرى .

ويكون مثل هذا الفرد مؤهلاً لنيل بعض درجات القيادة والسلطة العسكرية أو المدنية في اليوم الموعود .

الدرجة الثانية :

الإخلاص الثابت المهم الذي يتمثل في قدرة الفرد على السيطرة بإرادته على كل صعوبة وإغراء مر به في حياته ، من درجات الخوف والطمع المعروفة . بغض النظر عن أنه لو مر في حياته بدرجة أعلى من التمحيص والمصاعب فهل يستطيع النجاح أيضاً أو لا . وهذا هو الذي يفرق هذه الدرجة عن سابقتها .

صفحة (213)