الفصل الثاني 

 

فيما دلت عليه أخبار التنبؤ من حوادث وصفات للأفراد والمجتمع ، فيما يخص مقدار تمسكهم بالدين وشعورهم بالمسؤولية الإسلامية عقائدياً وسلوكياً

ونتكلم في هذا الفصل عن ناحيتين رئيسيتين ، من حيث استفادة التفاصيل المطلوبة من القواعد العامة تارة ومن الأخبار الخاصة تارة أخرى .

الناحية الأولى

فيما تقتضيه القواعد العامة من شكل أوضاع المجتمع ومصيره إلى الإنحراف ،ومقدار حاجته إلى ظهور المهدي(ع) لنشر الحق والعدل فيه .

ويتم بيان ذلك بكشف القناع عن التخطيط الالهي لليوم الموعود ، مدعماً بفلسفة ذلك ومناشئه وآثاره . ويتوقف بيان ذلك على عدة جهات :

الجهة الأولى :في مناشيء التخطيط الالهي :

ويمكننا أن نعرض ذلك ضمن عدة نقاط:

النقطة الأولى :

إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق متفضلاً ، ولم يخلقهم عبثاً ولم يتركهم هملاً . بل خلقهم وهو غني عنهم ، لأجل حصولهم على مصالحهم الكبرى ووصولهم إلى كمالهم المنشود ، المتمثل بإخلاص العبادة لله تعالى . قال عز من قائل : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون (1).

صفحة (201)

إذن فالغرض من الخليقة هو الحصول على هذا الكمال العظيم المتمثل بتوجيه العقيدة والمفهوم إلى الله عز وجل ، وقصر السلوك على طاعته وعدله في كل حركة وسكون . وإذا نظرنا إلى حقيقة هذا الكمال من جوانبه المتعددة ، واستطعنا تحصيل الفكرة المتكاملة عنه ، عرفنا الهدف الالهي المقصود الذي أصبح هدفاً لإيجاد الخليقة .

الجانب الأول :

إيجاد الفرد الكامل . من حيث أن قصر الإنسان نفسه على التربية بيد الحكمة الالهية الكبرى وتحت إشرافها وتدبيرها ، يوجد فيه الإنسان العادل الكامل ، الذي يعيش محض الحرية عن إنحرافات العاطفة والمصالح الضيقة ، والمساوق في إنطلاقه مع إنطلاقة الكون الكبرى إلى الله عز وجل .

الجانب الثاني :

إيجاد المجتمع الكامل ،والبشرية الكاملة المتمثلة من مجموعة الأفراد الذين يعيشون على مستوى العدل والإخلاص، والتجرد من كل شيء سوى عبادة اله تعالى ، تلك العبادة التي تتضمن تربية الفرد والمجتمع ، والارتباط بكل شيء على مستوى العدل الالهي .

الجانب الثالث :

إيجاد الدولة العادلة التي تحكم المجتمع بالحق والعدل ، بشريعة الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء . وتكون هي المسؤولة الأساسية عن السير قدماً بالمجتمع والبشرية نحو زيادة في التكامل في الطريق الطويل غير المتناهي الخطوات .

فهذا هو معنى العبادة المقصود في الآية ، وكل ما كان على خلاق ذلك فهو تقصير في العبادة الحقيقية تجاه الله عز وجل ، ولا يمكن أن نفهم من الآية هذا المعنى القاصر بطبيعة الحال .
ـــــــــــــــــ

(1)
  
الذاريات 51 / 56  

صفحة (202)

النقطة الثانية :

إن الآية واضحة الظهور في أن الغاية الأساسية والغرض الأصلي من إيجاد البشرية هو إيجاد هذه العبادة الكاملة في ربوع البشرية ، أو إيصالها إلى هذا المستوى الرفيع . وذلك بقرينة وجود التعليل في قوله تعالى : ليعبدون ، مع الحصر المستفاد من الآية من وقوع أداة الاستثناء (إلا) بعد النفي حين قال عز من قائل : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون .

إذن فهذا هو الهدف الوحيد المنحصر الذي لا شيء وراءه من خلقة البشرية ، المعبر عنهم بالإنس . وهذا الهدف ملحوظ ومخطط بشكل خاص منذ بدء الخليقة ، ويبقى ـ بطبيعة الحال ـ مواكباً لها ما دامت البشرية في الوجود .

وهذا بالضبط هو ما نعنيه حين نقول : أن الله تعالى لم يخلق البشرية لأجل مصلحته ، فأنه غني عن العالمين ، وإنما خلقهم لأجل مصلحتهم . وأي مصلحة يريدها الله لعباده غير كمالهم ورشدهم وصلاحهم المتمثل بالعبادة المخصلة والتوجه إليه بالخيرات نحوه عز وعلا .

النقطة الثالثة :

إن الغرض الالهي من خلق البشرية ، ما دام هو ذلك ، إذن فلا بد أن يشاء الله تعالى إيجاد كل ما يحققه والحيلولة دون كل ما يحول عنه ... شأن كل غرض إلهي مهم .... فإن الحكمة الأزلية حيت تتعلق بوجود أي شيء ، فإن تخلفه يكون مستحيلاً ، وتكون إرادة الله تعالى متعلقة بإيجاده لو كان شيئاً آنياً فورياً ، أو التخطيط لوجوده لو كان شيئاً مؤجلاً ومحتاجاً إلى مقدمات من الضروري أن توجد قبله .

وقد برهنا في رسالتنا الخاصة بالمفهوم الإسلامي للمعجزة أن الغرض الالهي المهم إذا تعلق بهدف من الأهداف ، فإنه لا بد من وجود ذلك الهدف ، ولو استلزم بوجوده أو ببعض مقدماته خرق قوانين الطبيعة ، وإيجاد المعجزات . فإن القوانين الطبيعية إنما أوجدها الله تعالى في كونه لأجل تنفيذ أغراضه من إيجاد الخلق . فإذا توقفت تلك الأغراض على انخرام تلك القوانين وحدوث المعجزات أحياناً أو في كثير من الأحيان .... كانت تلك القوانين الطبيعية قاصرة عن الممانعة والتأثير .

صفحة (203)

وهذا هو الذي يلقي الضوء على الفكرة الأساسية التي يقوم عليها ( قانون المعجزات ) الذي أشرنا إليه .... ونؤجل الغوص في تفاصيل ذلك إلى رسالتنا الخاصة بها .

النقطة الرابعة :

أننا نجد بالوجدان القطعي أن هذا الغرض الالهي المهم الذي نطقت به الآية بالمعنى الذي فهمناه ، لم يحدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ وجودها إلى العصر الحاضر . إذن فهو باليقين سوف يحدث في مستقبل عمر البشرية بمشيئة خالقها العظيم . وهذه هي الفكرة الأساسية التي ننطلق فيها إلى التسليم بالتخطيط الالهي لليوم الموعود .

ولئن كان المنطق الأساسي في هذا البرهان هوقوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ...فإنه يمكن الإنطلاق إلى نفس النتيجة من آيات قرآنية أخرى نذكر منها آيتين ، مع بيان الوجه في الاستدلال مختصراً ،ونحيل التفصيل إلى الكتاب الخامس من هذه الموسوعة الخاص بإثبات وجود المهدي (ع) عن طريق القرآن الكريم .

الآية الأولى :

﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً . ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (1) .

فهذا وعد صريح من الله عز وجل ، و ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد (2) للبشرية المؤمنة الصالحة التي قاست الظلم والعذاب في عصور الإنحراف وبذلت من التضحيات الشيء الكثير ... بأن يستخلفهم في الأرض ، بمعنى أنه يوفقهم إلى السلطة الفعلية على البشرية وممارسة الولاية الحقيقية فيهم . 
ــــــــــــــــــــــ
(1)  
سورة النور 24 / 55 .(2)   آل عمران 3 / 9 والرعد 13 / 31 وغيرهما بألفاظ مشابهة .

صفحة (204)

فإذا استطعنا أن نفهم من (الأرض ) كل القسم المسكون من البسيطة ، كما هو الظاهر من الكلمة والمعنى الواضح منها حملاً للأم على الجنس بعد عدم وجود أي قرينة على انصرافها إلى أرض معينة . ومعنى حملها على الجنس : إن كل أرض على الإطلاق سوف تكون مشمولة لسلطة المؤمنين واستخلافهم وسيحكمون وجه البسيطة .

وهذا هو المناسب مع الجمل المتأخرة في الآية الكريمة ، كقوله تعالى : ﴿ وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . فإن التمكين التام والاستقرار الحقيقي للدين ، لا يكون إلا عند سيادته في العالم أجمع . وكقوله تعالى : ﴿ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً .... بعد أن نعرف أن المؤمنين كانوا قبل الاستخلاف يعانون الخوف في كل مناطق العالم لسيادة الظلم والجور في العالم كله . فلا يكون الخوف قد تبدل إلى الأمن حقيقة إلا بعد أن تتم لهم السلطة على وجه البسيطة كلها .

فإذا تم لنا من الآية ذلك ، ولاحظنا وجداننا الذي ذكرناه وهو أن هذا الوضع الإجتماعي العالمي الموعد ، لم يتحقق على مدى التاريخ منذ فجر البشرية إلى عصرنا الحاضر . إذن فهو مما سيتحقق في مستقبل الدهر يقيناً طبقاً للوعد الالهي القطعي غير القابل للتخلف أو التمييع .

الآية الثانية :

قوله تعالى : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (1) .

وهي تعطينا بوضوح ، الغاية والغرض الرئيسي من إرسال رسول الإلسام صلى الله عليه وآله بالهدى ودين الحق. يدلنا على ذلك قوله تعالى ليظهره ، حيث دلت لام التعليل على الغاية ، والسبب في إنزال شريعة الإسلام وهو أن يظهره أي يجعله منتصراً ومسيطراً على غيره من الأديان والقائد كلها . وذلك لا يكون إلا بسيطرة دين الحق على العالم كله .

وإذا كان هذا غاية من إرسال الإٍسلام ،إذن فهو يقيني الحدوث في مستقبل الدهر . لأن الغايات الالهية غير قابلة للتخلف .
ــــــــــــــــــــــ
(1)  
التوبة : 9 / 23 والصف : 61 / 9 وانظر سورة الفتح : 48 / 28

صفحة (205)

ولئن دلت هاتان الآيتان على نفس المطلوب ... إلا أن قوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، أهم في مقام الاستدلال على ذلك ، لأنها تدلنا على الغرض الأسمى لخلق البشرية  أساساً ذلك الغرض الذي كان موجوداً منذ بدء الخلق . بخلاف الآيتين الأخيرتين ، فإنهما مختصتان بمضامين محدودة نسبياً ، كما يتضح لمن فكر في مدلوليهما .

وإن هاتين الآيتين في الواقع ، من تطبيقات ذلك الغرض الأسمى الذي نطقت به ، الآية الكريمة الأولى ، كما سيتضح بعد قليل عند معرفتنا بتفاصيل التخطيط الالهي لليوم الموعود .

النقطة الخامسة :

إن تكامل الفرد ، وبالتالي تكامل المجتمع البشري ، يتوقف ـ بعد أن وهبه الله عز وعلا العقل والاختيار ـ على عاملين : عامل خارجي وعامل داخلي أو قل : عامل موضوعي وعامل ذاتي .

أما العامل الخارجي الموضوعي ، فهو إفهام الفرد ـ وبالتالي المجتمع ـ معنى العدل والكمال الذي ينبغي أن يستهدفه والمنهج الذي يجب عليه أن يتبعه في حياته ويقصر عليه سلوكه .

وهذا الإفهام لا يمكن صدوره إلا عن الله عز وجل ، بعد البرهنة على عدم إمكان توصل البشرية إلى كمالها ومعرفتها بالعدل الحقيقي إذا عزلت فكرياً عن الحكمة الأزلية الالهية  ، كما صح البرهان عليه في بحوث العقائد الإسلامية . ومن ثم لا يمكن أن يتحقق الغرض الالهي المهم في هداية البشرية وإيجاد العبادة الكاملة في ربوعها ، إذا أوكلت البشرية إلى نفسها وفكرها القاصر ، وألقي حبلها على غاربها . إذن ، فلا بد من أجل التوصل إلى ذلك الغرض الكبير من أن يفهمها الله تعالى معنى العدل والكمال وتفاصيل السلوك الصالح الذي يجب اتخاذه .

وحيث أن إفهام البشرية من قبل الله تعالى بالمباشرة والمواجهة مستحيل ، كما صح البرهان عليه في بحوث العقائد الإسلامية ، احتاجت البشرية إلى أن يرسل الله تعالى إليها أنبياء مبشرين ومنذرين . وأن يكون إرسالهم وإثبات صدقهم طبقاً لقانون المعجزات . لأن هذه المعجزات تقع في طريق هداية البشر والوصول إلى إيجاد الغرض المهم من إيجادهم .

صفحة (206)

ومنه نستطيع أن نلاحظ ، كيف أن خط الأنبياء الطويل ، والأعداد الكبيرة منهم ، إنما كان باعتبار التقديم والتمهيد للغرض الكبير . باعتبار أن البشرية حين أول وجودها كانت قاصرة عن فهم تفاصيل العدل الكامل ، فلم يكن في الإمكان إيجاد المجتمع العادل الكامل الموعود في ربوعها لأول وهلة . بل كان لا بد أن تتربى البشرية تدريجياً إلى أن تصل إلى المستوى اللائق الذي يؤهلها لمجرد فهم العدل الكامل الذي يريد الله تعالى تطبيقه في اليوم الموعود .

ومن هنا نعرف أن الأنبياء إنما تعددوا وتكثروا من أجل إعداد البشرية وتربيتها للوصول إلى هذا المستوى اللائق ... لكي يتم لها هذا العامل الخارجي الأساسي وهو إفهامها العدل الكامل والأطروحة النظرية التامة للعدل التشريعي الذي يريد الله تعالى تطبيقها على وجه الأرض ، والتي بها تتحقق العبادة الكاملة التي يرضاها الله تعالى لخلقه ، وبها يتحقق الهدف الأساسي لإيجاد الخليقة .

وأما العامل الداخلي الذاتي ، فهو الشعور بالمسؤولية تجاه الأطروحة العادلة الكاملة ، باعتبار أنها إنما تضمن العدل فيما إذا أطاعها الأفراد وطبقت في حياتهم ،وهي إنما تضمن الطاعة التامة،مع وجود الشعور بالمسؤولية،إذن فلا بد من أجل وجود العدل أن يوجد هذا العامل الداخلي الذاتي في الإنسان .

وإنما يوجد الشعور بالمسؤولية وينمو ، نتيجة لأسباب ثلاثة ، مقترنة :

السبب الأول :

إدراك العقل لأهمية طاعة الله والخضوع له والإنصياع إلى أوامره ونواهيه ، باعتباره مستحقاً للعبادة مع غض النظر عن أي اعتبار آخر .

السبب الثاني :

الشعور بأهمية طاعة الله تعالى ، باعتبارها الضامن الحقيقي للعدل المطلق ، على المستويين الفردي والإجتماعي، أو بتعبير آخر : تربية الإخلاص الذاتي لطاعة الله باعتبار المعرفة الواضحة بضمانها للعدل المطلق .

صفحة (207)