الخطوة الثانية :

إعطاء الأطروحة التامة لفكرة غيبته وظهوره . كما سمعنا ذلك في عدد من مقابلاته وتوقيعاته ، في غيبته الصغرى، كمقابلته مع علي بن مهزيار وتوقيعه للأسدي (1) .

وبذلك يعطي الثقافة الكافية التي تعطي الدفع الأساسي للفرد المسلم للصمود والثبات عن بصيرة وتفهم حقيقي للهدف المنشود .

الخطوة الثالثة :

العمل على إزالة الظلم والطغيان ، في الحدود التي سبق أن ذكرناها في القسم الأول من هذا التاريخ .

وبذلك يعطي الفرد المسلم فرصة أكبر للنجاح في التخطيط والتمحيص الالهيين ، باعتبار قلة الموانع والتعسفات نسبياً ، ضد الإيمان والإخلاص ، حينئذ .

مما يفسح مجالاً أوسع للعمل على طبق الإخلاص وتبليغ مؤداه إلى الآخرين . فالمهدي (ع) في كل هذه الخطوات ، يسير في خط التخطيط الالهي العام لليوم الموعود ، كما سبق أن سار سلفه الصالح المتمثل بالأنبياء والأئمة عليهم السلام . وكيف لا يكون كذلك ، وهو القائد العظيم المذخور لذلك اليوم العظيم .

الجهة الرابعة :

أهمية القيادة في التخطيط الالهي .

ويمكن أن ننطلق إلى الحديث في هذه الجهة من عدة نقاط :

النقطة الأولى :

لا بد لكل حركة من قيادة ولكل دولة من رئيس . ولا شك أنه كان على رأس كل حركة ناجحة في التاريخ قائد محنك مقدام استطاع أن يسير بها قدماً إلى الأمام :
ـــــــــــــــ

(1) انظر مثلاً تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 577 وغيرها .

صفحة (234)

وهذا أساساً ، مما لا بد منه ، بحيث يستحيل عادة وجود حركة ما من دون قيادة وتوجيه مهما كانت الحركة ضئيلة والقيادة مبسطة . فإن الجماعة ـ أياً كانت ـ بصفتها مكونة من عدد من الأفراد مختلفين في التدبير ووجهات النظر، لا تكاد تستطيع أن تحفظ مصالحها في حاضرها ومستقبلها ، إلا بشخص أو عدة أشخاص يأخذون فيها مركز القيادة والتوجيه . فكيف إذا تضمنت الحركة إصلاح العالم برمته وضمان تطبيق العدل الكامل على البشرية جمعاء . ومباشرة التطبيق من حكم مركزي واحد ودولة عالمية واحدة .

ونحن نرى أن الدول كبيرها وصغيرها ، بالرغم من تضامن أفرادها وتدقيقهم في الأمور السياسية والإجتماعية والإقتصادية ، لاجل قيادة جزء من العالم ... فإنه يظهر على مر الزمن فشلها وسوء تصرفها ، وأخذها بالمصالح الخاصة للقادة لا بالمصالح العامة للناس . فكيف بقيادة العالم كله .

إذن ، فلا بد ، من أجل ضمان تحقق الغرض الالهي الكبير ، من إيجاد شخص مؤهل من جميع الوجوه ، لأجل الأخذ بزمام القيادة العالمية في اليوم الموعود . ولأجل هذا وجد المهدي عليه السلام .

النقطة الثانية :

لا شك أن النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) بعده كان لهم القابلية الكاملة للقيادة العالمية . لضم مقدمتين نذكرهما هنا مختصراً ونحيل تفاصيلهما إلى موطنه من أبحاث العقائد الإسلامية .

المقدمة الأولى :

إن كل شخص يعينه الله تعالى للقيادة ، لا بد أن تكون له القدرة على تلك القيادة . إذ يقبح على الله تعالى أن يعين شخصاً لمهمة وهو قاصر عن آدائها . فمثلاً إذا كان نبي مرسل إلى هداية مدينة واحدة كان لا بد أن يبه القدرة على أداء مسؤوليته ، وإذا كان مرسلاً إلى هداية منطقة كبيرة من العالم فلا بد من أن يكون له القدرة على ذلك وهكذا . ولا يمكن أن يوكل الله تعالى شيئاً من المهام إلى شخص غير قابل لأدائها . بل أما أن يكون الشخص قابلاً لذلك قبل إيكال المهمة إليه ، أو أن يهبه الله تعال تلك القابلية بعد إيكال المهمة إليه . وعلى أي حال يكون حال تصدية لأداء مهمته على أتم القابلية والاستعداد .

صفحة (235)

المقدمة الثانية :

إن دعوة النبي (ص) عالمية ، كما أن المسؤوليات التشريعية المنوطة بقيادته معقدة وكبيرة .

إذن يتعين القول بأن الله تعالى أعطى النبي (ص) القابلية الكاملة للدعوة والدولة العالميتين . وحيث أن الأئمة (ع) منصوبون بتعيين من الله تعالى ، ليقوموا مقام النبي (ص) في الأخذ بزمام مسؤولياته بعد وفاته ، من وجهة النظر الأمامية ، إذن فلا بد أن يكون الله تعالى قد أعطاهم القابلية الكاملة للقيادة العالمية .

وبهذا الدليل يتعين أن يكون للمهدي (ع) مثل هذه القابلية ، والأهلية بصفته أحد الأئمة المعصومين الاثني عشر عليهم السلام من زاوية النظر الأمامية ، أو بصفته خليفة النبي (ص) في آخر الزمان المنصوص عليه من قبل النبي (ص) .

كما يعترف به كل المسلمين . وعلى أي حال ، فالمهدي (ع) يوجد قابلاً للقيادة العالمية ، قابلية متناسبة مع سعة دعوته ومسؤولياته في إنجاز العدل الكامل وتنفيذ الغرض الالهي الكبير .

النقط الثالثة :

وكان لا بد للغيبة أن تشارك في التخطيط الالهي . لان الإرادة الالهية بعد أن تعلقت بأن يكون الإمام محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام مهدياً للأمة ، كما يذهب إليه الإمامية وعدد من العامة ... كان لا بد من الحفاظ عليه إلى أن يتحقق الشرط الأساسي لتنفيذ ذلك الغرض الكبير .

فإننا إن قلنا بأن المهدي يولد في زمانه ، كان هذا خلاف هذا الاعتقاد .وإن قلنا بوجوده متقدماً كان لا بد من اختفائه حفاظاً على حياته ، حتى يظهر الله أمره وينفذ وعده ، وهو معنى الغيبة .

فإن قال قائل : يمكن أن نلتزم أن المهدي (ع) ولد في الزمان المتقدم ، ثم يموت ، ثم يحييه الله تعالى للقيام باليوم الموعود .

صفحة (236)

نقول في جوابه : إن هذا غير صحيح لعدة وجوه .

أولاً : أنه افتراض لم يقل به أحد . فهوعلى خلاف اعتقاد كل المسلمين . إذن فهو باطل جزماً .

ثانياً : أننا إن فهمنا الغيبة طبقاً لأطروحة خفاء الشخص ، فليس الحياة بعد الموت أولى منها ، من الناحية الإعجازية . وإن قلنا بالغيبة طبقاً لأطروحة خفاء العنوان ، كانت هذه الأطروحة أولى بالأخذ من ذلك الافتراض ، لأنها أقرب إلى الأسلوب الطبيعي ، كم عرفنا فيما سبق .  وقد عرفنا أيضاً أن قانون المعجزات ينفي كل معجزة يمكن أن يوجد الغرض منها بشكل طبيعي .

ثالثاً : أننا مع هذا الافتراض سوف نخسر شيئاً أساسياً سوف نشير إليه ، وهو تكامل القائد خلال عصر الغيبة من تكامل ما بعد العصمة . إذ مع ذاك الافتراض لا يكون هذا التكامل موجوداً ، فإنه لا محالة يحيى على نفس المرتبة التي مات عليها من الكمال .

إذن فالحفاظ على القائد العظيم ، هو المطلوب الأساسي من الغيبة ، الذي تشارك فيه الغيبة في التخطيط الالهي .

ويمكن أن نضيف عدة أمور أخرى يشارك فيها عصر الغيبة في هذا التخطيط :

الأمر الأول :

تكامل القائد ، من تكامل ما بعد العصمة ، ذلك الكمال الذي يؤهله إلى مرتبة أعلى وأعمق وأسهل في نفس الوقت من أساليب  القيادة العالمية العادلة . وسنبحث ذلك مفصلاً في القسم الثاث من هذا التاريخ .

الأمر الثاني :

ما سمعناه في القسم الأول من قيام المهدي(ع) بالعمل الإسلامي المنقذ للأمة من الهلكات ، والفاتح أمامه سبل الخير ، والموفر ـ في نتيجته ـ أكبر مقدار من المخلصين الممحصين ، المشاركين في بناء الغد الموعود .

الأمر الثاني :

مساهمة الحوادث التي تمر خلال عصر الغيبة الطويل ، بإيجاد شرط الظهور ، وهو كون الامة على مستوى المسؤولية . كما سبق أن أوضحنا .

صفحة (237)

الأمر الرابع :

شعور الأمة ، على طول الخط ، بوجود القائد الفعلي لها الماسك بزمام أمرها والمطلع على خصائص أعمالها . ذلك الشعور الذي يرفع من معنويات الأفراد ويقوي فيهم روح العزيمة والإخلاص ، مما يساعد على زيادة أعداد المخصلين الممحصين .

الأمر الخامس :

تعمق الفكر الإسلامي من حيث الفهم من الكتاب والسنة ، سواء في العقائد أو الأحكام ، مما يجعل الأذهان مستعدة أكثر فأكثر لتقبل وفهم الأحكام التفصيلية التي يعلنها المهدي (ع) في دولته العالمية الموعودة .

ونحن لا زلنا نرى المفكرين الإسلاميين ، يتحفون مجتمعهم ببحوث وتدقيقات جديدة قائمة على التعمق والسعة في فهم الكتاب والسنة ، من جوانبها المتعددة ، فهذه البحوث كلها واقعة ضمن التخطيط الالهي الكبير .

ونحن نشعر بما لتعقد الحياة وتضاعف الظلم البشري ووجود التيارات المعادية للإسلام ... من إيجاد الدافع القوي للمفكرين الإسلاميين ، في السير قدماً نحو التعمق والتدقيق . فيكون ذلك من هذه الجهة أيضاً ، مندرجاً في التخطيط الالهي .

وقد يخطر في الذهن : أننا سبق أن قلنا أن الأمة عند نزول الإسلام كانت على مستوى فهمه وقابلة لاستيعابه ، بصفته الأطروحة العادلة الكامة ، إذن فهم قد فهموه . فما هو الحاجة إلى هذه الزيادة في التدقيقات .

وجواب ذلك : أننا نحتمل ـ على أقل تقدير ـ أن الأطروحة العادلة المعلنة بين البشر ذات مستويين من الناحية الفكرية . فالمستوى الأدنى منها ، كان البشر على مستوى فهمه واستيعابه عند بدء الإسلام . وهو الذي أصبح معلناً منذ ذلك الحين إلى عصر الظهور . وهو الذي يعيش التدقيقات والتعميق على طول الزمن .

والمستوى الأعلى منها سوف يعلن بعد الظهور عند الإبتداء بالتطبيق العادل . وهو يحتاج في فهمه إلى مستوى فكري وثقافي في البشرية لا يحصل إلا بتلك التدقيقات .  ولو كان قد أعلن في بدء الإسلام لما كان مفهوماً على  الإطلاق .

صفحة (238)

وهذا الامر وإن كنا نعرضه الآن معرض الإحتمال ، إلا أننا سنسمع في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة مثبتات ذلك.

إذن فهذه الدقة المكتسبة في الفكر الإسلامي فقط هي التي تشارك في تعميق المستوى الثقافي اللازم تحققه في اليوم الموعود .... بل تشارك في ذلك سائر القطاعات والشعوب في العالم ، بما تبذل من دقة وعمق في سائر العلوم .

لوضوح أن البشرية على العموم ، وليس المجتمع المسلم وحده ، هو الذي يجب أن يتقبل الأحكام المهدوية ... فإن حكم المهدي (ع) يعم العالم كله ، ولا يختص بالمجتمع الإسلامي .

مضافاً إلى أن التقدم العلمي في سائر حقول المعرفة البشرية ، سوف تشارك مشاركة فعالة في بناء الغد المنشود ، ذلك الغد الذي يصعب تقدم البشرة بالسرعة المطلوبة بعد تحققه ، لولا أنها كانت قد تقدمت وتكاملت قبل ذلك .

إذن فعصر الغيبة يشارك في التخطيط الالهي من هذه الناحية أيضاً .

وبهذا نكون قد حملنا فكرة كافية عن التخطيط الالهي والتمحيص الذي ينال البشر خلال عصر الغيبة الكبرى. وهو ما عنيناه في هذه الناحية الأولى من هذا الفصل من اقتضاء القواعد العامة في الإسلام لوجود الظلم والإنحراف في المجتمع . وسيكون ما نسرده من النصوص في الناحية الآتية مؤديات لفحوى القواعد العامة التي عرفناها .