والمراد برفع العلم ارتفاعه من المجتمع وقلة العلماء والمتعلمين . والمراد به العلم بالأحكام الشرعية والعلوم الإسلامية . كما أن المراد بنزول الجهل وظهوره

تفشيه في المجتمع المسلم من الناحية الفكرية الإسلامية ، أيضاً بطبيعة الحال . وفي التعبير برفع العلم وقبضه ، إيضاح أنه مستند إلى الله تبارك وتعالى ، مع تنزيه الله تعالى عن إسناده وتحقيق الجهل إليه عز وعلا . تماماً كما قال إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام : وإذا مرضت فهو يشفيني (1) ولم يقل : وهو الذي يمرضني ويشفيني ، كما قال : وهو الذي يطعمنى ويسقيني (2) .

وعلى أي حال ، فاستناده إلى الله تعالى ، يكون ـ مرة ـ بتوسيط عباده ، في ضغط المنحرفين على المؤمنين بالسكوت وعدم تبليغ الأحكام والمفاهيم الإسلامية إلى الأمة . ويكون ـ تارة أخرى ـ بفعل الله تعالى مباشرة بأن يموت العلماء تدريجياً ويقل المتعلمون ، فتصبح الأجيال القادمة خالية من العلماء فارغة فكرياً من الثقافة الإسلامية . ومن هنا أخرج البخاري (3) عن النبي (ص) أنه قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء . حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤؤساً جهالاً ، فسئلوا فافتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا .

ومن هنا يكون هذا الأمر مما يحكم الوجدان بحدوثه ، وموافقاً للقاعدة ومندرجاً في التخطيط الالهي ، وموحداً في المضمون مع ما سنذكره من بيان وجود علماء السوء في الأخبار . ويكون ترك تعلم المتعلمين ناتجاً عن التيار العام للفساد والبعد عن التعاليم الإسلامية . وهو بدوره يسبب بعداً أكثر ... وهكذا .

القسم الثاني :

ما دل من الأخبار على تشتت الأراء واختلاف النوازع والأهواء ، وكثرة الدعوات المبطلة .
أخرج ابن ماجه في سننه : أنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف (4) .
ــــــــــــ

(1)  
الشعراء 26 / 80 .(2)   الشعراء 26 / 79 .(3)   جـ ص 36 .(4)   السنن ، ص 1310 .

صفحة (250)

وأخرج أيضاً : يكون دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها (1) ونحوه أخرجه مسلم في صحيحه (2).

وأخرج ابن ماجة أيضاً ، قوله (ص) : ومما اتخوف على أمتي أئمة مضلين (3) وقوله (ص) : تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك . الحديث (4) .

وروى النعماني (5) عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث : وليرفعن إثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أي من أي. وروى نحوه الصدوق في إكمال الدين (6) .

وروى النعماني (7) أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث يصف به فساد المجتمع ويقول : واختلاف شديد بين الناس وتشتت في دينهم وتغير من حالهم .

وروى الشيخ الطوسي في الغيبة (8) عن أبي سيعد الخدري قال : قال رسول الله (ص) : أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً .... الحديث . ونقله ابن حجر في الصواعق (9) بلفظ مقارب عن أحمد والماوردي .

وهذا المضمون ، مطابق للقاعدة العامة ، كالقسم السابق ، فإنه يعطي صورة أخرى للظلم والفساد . فإن اختلاف الأراء وتشتتها من أوضح صور الظلم ومستلزماته . وقد كان هذا وما زال موجوداً بين الناس سواء على المستوى المذهبي الإسلامي أو على المستوى السياسي أو الإقتصادي أو غيره من حقول الحياة . فإن المجتمع المنحرف منقسم على نفسه دائماً ومتناحراً في داخله على طول خط انحرافه . 
ــــــــــــ

(1)  
انظر السنن ، ص 1317 . (2)   جـ 6 ، ص 20 .(3)   السنن ، ص 1304 . (4)   السنن ، ص 1324 .
(5)   انظر الغيبة ، ص 77 (6)   انظر المصدر المخطوط . (7)   الغيبة ، ص 135 .(8)   ص 111 .(9)   ص 99 .

صفحة (251)

وأما دعاة السوء والأئمة المضلين ، فما أكثرهم في التاريخ ! فقد كانوا يتمثلون في عصر الخلافة بالعلماء المدعين للإسلام الضالعين مع الجهاز الحاكم ، ولا زال أمثالهم موجودين إلى العصر الحاضر . كما كانوا يتمثلون بالقرامطة ونحوهم ممن يدعو إلى الإسلام وهم منه براء . ويتمثلون في عصرنا الحاضر ، بعدد غير قليل من الأفكار والعقائد المنحرفة في العلنة في المجتمع المسلم ، كالبهائية والقاديانية وأكثر مسالك التصوف ... وغيرها .

ومن هنا يكون ما قيل في الرواية صحيحاً جداً ، من أن كل من تابعهم وأجاب دعواتهم ، قذفوه في جهنم ، بمعنى أنهم سببوا الخروج عن الإسلام الحق ، بحيث يستحق العقاب الالهي .

القسم الثالث :

الأخبار التي دلت على اختلاف الناس بشأن المهدي عليه السلام ، خلال غيبته الكبرى . نتيجة لطول الغيبة واستبعاد الناس وجوده خلال الزمان الطويل ، وما يقترن بذلك من الدعاوى والتزويرات .

والروايات في ذلك عن أئمة الهدى عليهم السلام كثيرة . وأما العامة فلم يرووا فيه شيئاً ،لأنه مخالف لرأيهم القائل بإنكار وجود الغيبة الكبرى للمهدي (ع) .

من ذلك ما أخرجه الصدوق في الاكمال (1) عن الإمام الباقر (ع) في حديث يشبه به المهدي (ع) بعدد من الأنبياء ... إلى أن قال : وأما شبهه من عيسى عليه السلام فاختلاف من اختلف فيه . حتى قالت طائفة منهم : ما ولد . وقالت طائفة : مات . وقالت طائفة : قتل وصلب .... الحديث .
ـــــــــــ
 
(1)  
انظر إكمال الدين ، المحفوظ . (2)   نفس المصدر .

صفحة (252 )

وروي ايضاً (2) عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) في حديث قالفيه : وأما من عيسى فاختلاف الناس فيه .
وروى النعماني (1) عن أبي جعفر الباقر (ع) إن للقائم غيبتين يقال له في إحداهما : هلك ، ولا يدري في أي واد سلك وروي عن الإمام الصادق (ع) بلفظ : مات أو هلك في أي واد سلك (2) .

وفي الإكمال أيضاً (3) عن الإمام الصادق(ع) : أما والله ليغيبن إمامكم شيئاً من دهركم ، ولتمحصن (4) حتى يقال : مات أو هلك أو بأي واد سلك . ولقد معن عليه عيون المؤمنين .

وأخرج ثقة الإسلام الكليني في الكافي عدداً من الأخبار الدالة على نفس هذا المضمون في باب عقدة لذلك بعنوان : باب في الغيبة (5) .
وهذا كله واضح الإندراج في التخطيط الالهي المقتضي للتمحيص والامتحان . فإن طول الزمن وزيادته على عمر الإنسان الطبيعي ، قد يورث الشك في بقاء الفرد واستمراره على أقل تقدير ... لولا الدليل القطعي على بقاء المهدي(ع) وعلى التخطيط الالهي لحفظه لليوم الموعود . ومن هنا كان المشكك في ثبوت ذلك أو المنساق وراء حسه المادي، مفكراً لبقاء المهدي (ع) وغيبته .

نستطيع أن نعثر على القائلين بجميع ما ذكرت الروايات من الآراء ووجهات النظر . فإنها تعرضت إلى أربعة أقوال

القول الأول :

أنه لم يولد ، والمراد أن الإمام الحسن العسكري (ع) مات ولم يعقب ولداً .
ـــــــــ
(1)  
انظر الغيبة ، ص 91 . (2)   المصد ر، ص80 .(3)   انظر المصدر المخطوط . (4)   في المخطوط : وليمحض وهو خطأ على الظاهر (5)   انظر المصدر المخطوط .
 

صفحة (253)

وقد عرفنا في تاريخ الغيبة الصغرى مناشئ هذا القول ، وكيف كان هو الاعتقاد الرسمي للدولة بعد وفاة الإمام العسكري (ع) مما سبب استيلاء جعفر الكذاب على التركة .

وأما القول بأن المهدي (ع) لم يولد ، وإنما يولد في مستقبل الدهر ليملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ... فهو القول الذي يذهب إليه إخواننا أهل السنة والجماعة عموماً ، بعد أن تسالموا مع الإمامية على ظهور المهدي (ع) وقيامه بدولة الحق .

القول الثاني :

أنه ولد ولكنه مات . والقائل بذلك على قسمين :

القسم الأول :

من يزعم أن محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام ، مات .

وقد ذهب إلى ذلك بعض المتأخرين كالشيخ محمد بن أحم السفاريني الأثري الحنبلي في كتابه لوائح الأنوار البهية ، حيث قال : وأما زعم الشيعة أن اسمه " يعني المهدي " محمد بن الحسن وأنه محمد بن الحسن العسكري ، فهذيان . فإن محمد بن الحسن هذا قد مات ، وأخذ عمه جعفر ميراث ابيه الحسن (1) .

وهذا زعم تتسالم كل المصادر التأريخية الأولى على نفيه ، من سائر مذاهب المسلمين .

أما مؤرخو الإمامية كالشيخ النعماني والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ المفيد ، وكذلك من يدور في فلكهم، كالمسعودي واليعقوبي ، فأمرهم واضح ، فإنهم يثبتون ولادته وغيبته بالصراحة ، شأنهم في ذلك شان كل العلماء الإماميين ... كيف لا وهو من ضروريات المذهب .
وأما مؤرخو العامة المتقدمون كالطبري وابن الأثير وابن خلكان وابن الوردى وأبي الفداء ، والمتأخرون كابن العماد والزركلي ... وغيرهم . فإنهم ينصون على ولادته ويذكرون اختفاءه وأنه المهدي المنتظر صاحب السرداب بزعم الشيعة .
ـــــــــــ

(1)  
انظر جـ 2 و ص 68 .

صفحة (254)