الأمر الخامس :
نعرف من ذلك كله ، متى تكون العزلة والسلبية واجبة ، ومتى تكون جائزة ومتى تكون
محرمة ، بحسب المستوى الفقهي الإسلامي.
فإن العزلة والسلبية ، مفهوم يحمل معنى عدم القيام بالفعاليات الإجتماعية
الإسلامية من الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فمن هنا تكون العزلة
الإسلامية من الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن هنا تكون العزلة
محرمة حين يكون ذلك واجباً ، وتكون واجبة حين يكون ذلك حراماً على بعض الوجوه
التي نذكرها فيما يلي . وتكون العزلة جائزة إن لم يكن في العمل الإسلامي موجب
الوجوب والتحريم .
حرمة السلبية :
فحرمة السلبية ، إنما تتأنى من وجوب المبادرة إلى ميادين العمل الإسلامي ...
أما بالقيام بالجهاد على مستوييه : المسلح وغير المسلح ، مع اجتماع شرائطه .
وأما بالقيام بالأمر بالمعروف ومحاولاً الاصلاح في المجتمع الإسلامي ، على
مستوييه المسلح وغيره ، عند اجتماع شرائطه ... وخاصة غير المسلح منه ، الذي هو
الأعم الأغلب منه .
وعلى أي حال ، فإذا وجب العمل الإسلامي حرمت العزلة ، وكانت عصيانا وانحرافاً
إسلامياً خطيراً . وتكتسب أهميتها المضادة للإسلام ، بمقدار أهمية العمل
الإسلامي المتروك .
ومن ثم كان ترك الجهاد عند وجوبه ، والفرار من الزحف من أكبر المحرمات في
الإسلام ...طبقاً لقوله تعالى: ﴿ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو
متحيزاً إلى فئة ،فقد باء بغضب من الله،ومأواه جهنم وبئس المصير﴾
(1) . كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند وجوبه حرام
إسلامياً ، مؤذن بالعقاب ، كما ورد عن النبي (ص) : إذا أمتي تواكلت الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، فليأذنوا بوقاع من الله . وعنه (ص) أنه قال : لا
تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر ، فإذا لم
يفعلوا ذلك ، نزعت منهم البركات وسلط
بعضهم على بعض ، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء . ومعنى أنه لا ناصر
لهم في السماء : ان الله تعالى لا يرضى بفعلهم ولا يقره .
ــــــــــــــــ
(1)
الانفال
: 8 / 16 .
صفحة (325)
وجوب السلبية :
وتكون العزلة والسلبية واجبة ، عندما يكون ترك العمل الإسلامي واجباً ،
والمبادرة إليه حراماً . وذلك في عدة حالات :
الحالة الأولى :
القيام بالجهاد الاسلامي بدون إذن الامام أو القائد الاسلامي أو رئيس الدولة
الاسلامية ... فان ذلك غير مشروع في الاسلام ، كما ينص عليه الفقهاء ، سواء
كانالقائد غافلاً أو ملتقياً ... فضلاً عما إذا كان العمل موجهاً ضد الامام أو
الدولة ، سواء كان عسكرياً أو غيره .
ونحن نفهم بكل وضوح ، المصلحة المتعلقة بهذا الاشتراط . فان القائد الاسلامي
أبصر بمواضع المصلحة وموارد الحاجة إلى الجهاد من الفرد الاعتيادي ، بطبيعة
الحال وبذلك يكون عمله أدخل في التخطيط الالهي العام لهداية البشر ، من عمل
غيره . بل قد يكون عمل غيره هداماً مخرباً ، كما سيأتي في الجانب الثاني من
هذه النقطة الثانية .
الحالة الثانية :
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيما إذا لم يكن يحتمل التأثير ،
وكان مستلزماً مع الضرر البليغ أو إلقاء النفس في التهلكة . فان هذا الأمر
والنهي يكون محرماً وحرمته مطابقة مع القواعد العامة ، فان معنى الاشتراط بعدم
الضرر، هو سقوط الوجوب معه ، فلا تكون هذه الوظيفة الاسلامية بلازمة . فان كان
الضرر بليغاً ن كان المورد مندرجاً في حرمة القاء النفس في التهلكة أو حرمة
التنكيل . فيكون محرماً .وإذا حرم الأمر بالمعروف، كانت العزلة والسلبية
المقابلة له واجبة .
صفحة (326)
وهذا التشريع واضح المصلحة بالنسبة إلى الممحصين وغيرهم . أما الممحصين
فباعتبار أ، التضحية وتحمل الضرر في مورد يعلم بعدم ترتب الأمر أو تغيير الواقع
، تذهب هذه التضحية هدراً ، بحيث يمكن صرفها في مورد أهم من
خدمات الاسلام . وأما بالنسبة إلى غير الممحصين فلنفس الفركة ، مع الأخذ بنظر
الاعتبار ضحالتهم في قوة الارادة وضعفهم في درجة الايمان .
الحالة الثالثة :
فيما إذا كانت العزلة أو السلبية ، تتضمن مفهوم المقاومة أو المعارضة أو الجهاد
ضد وضع ظالم أو أساس منحرف ... فأنها تكون واجبة بوجوب الجهاد نفسه .
وتكون في واقعها عملاً اجتماعياً متكاملاً ... ولكن أن تكون مخططاً مدروساً
وطويل الأمد ، يختلف باختلاف الظروف والأهداف المتوخاة من وراء هذه العزلة .
وتندرج هذه السلبية ، بالرغم من مفهومها السالب الخالي عن الحركة ، تحت أهم
أعمال الجهاد . قال تعالى: ﴿ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة ف يسبيل
الله ، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به
عمل صالح . ان الله لا يضيع أجر المحسنين﴾(1) . إذن فالمراد في صدق
مفهوم الجهاد والعمل الصالح ، هو إغاضة الكفار والنيل من أعداء الحق ، سواء كان
ذلك بعمل إيجابي حركي أو بعمل سلبي ساكن .
كما قد تندرج السلبية في مفهوم الأمر بالمعروف أو النهي عن المننكر ... إذا
كانت مما يترتب عليها الاصلاح في داخل المجتمع الاسلامي أو تقويم المعوج من
أفراده ، فتكون واجبة بوجوب هذا الأمر والنهي .
ولعل من أهم أمثلة قوله تعالى : ﴿واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في
المضاجع﴾(2) . فان هذا الهجران نوع من السلبية لأجل
نهي الزوجة العاصية الناشز عن ما هي عليه من العمل المنكر ضد زوجها .
وكم قد عملت السلبية في التاريخ أعمالاً كبرة وبعيدة الأثر ، قد تعدل الأعمال
الايجابية ، بل قد تفوق بعضها بكثير .
_____________
(1)
التوبة : 9/120 . (2) النساء : 4/34 .
صفحة (327)
الحالة الرابعة :
ما إذا خاف الفرد على نفسه الانحراف ، واحتمل اضطراره إلى الانزلاق تحت إغراء
مصلحي أو ضغط ظالم أو اتجاه عقائدي لا إسلامي .
فأنه يجب على الفرد – في مثل ذلك- أن يجتنب السبب الموجب للانحراف ، يعتزل عنه
، لكي يحرز حسن عقيدته وسلوكه.وتكون الحالة إلى هذه العزلة ملحة ، فيما إذا
لم يجد الفرد في نفسه القوة الكافية لمكافحة التيار المنحرف أو التضحية في سبيل
العقيدة .
إلا أن هذه العزلة لا يجب أن تكون كلية ومطلقة ، بل الواجب هو اعتزال التيار
الذي يخاف المكلف من هعلى نفسه أو دينه . وأما اعتزال المجتمع بالكلية ، فهذا
غير لازم بل غير جائز إسلامياً ، إذا كانت هناك فرص للعمل الاسلامي الواجب ، من
جهات أخرى .
جواز السلبية :
وأما موارد اتصاف السلبية بالجواز ، فهو كل مورد كان العمل الاجتماعي الاسلامي
جائزاً أو كان تركه جائزاً أيضاً. فيكون للمكلف أن يقوم به ، أو أن يكون
معتزلاً له وسلبياً تجاهه .
إلا أن الغالب هو عدم اتصاف العمل الاسلامي بالجواز ، بل يكون-عند عدم اتصافه
بالوجوب- راجحاً أو مستحباً . فتكون العزلة المقابلة له مجرومة ومخالفة للأدب
الاسلامي العادل .
وعلى أي حال ، فقد استطعنا أن نحمل فكرة كافية على صعيد الفقه الاجتماعي ،عن
العمل والعزلة في نظر الاسلام، من حيث الوجوب والحرمة والجواز . وبذلك ينتهي
الكلام في الجانب الأول .
* * *
الجانب الثاني :
من الحديث عن العزلة أو الجهاد ، في ارتباط هذه الأحكام الاسلامية بالتخطيط
الالهي العام للبشرية ، وبقانون التمحيص الالهي .
عرفنا فيما سبق ، ما للظلم ولظروف التعسف التي يعيشها الأفراد ، من أثر كبير في
تمحيصهم وبلورة عقيدتهم ، ووضعها على مفترق طريق الهداية والضلال .
صفحة (328)
وينبغي أن نعرف الآن ، أن الظلم لا يحدث ذلك مباشرة ... كيف وان مدلوله المباشر
ومقصوده الأساسي ، هو سحق الحق وأهله . وإنما يوجب ذلك
باعتبار الصورة التي يحملها الفرد المسلم في ذهنه عنه ورد الفعل الذي يقوم به
تجاهه نفسياً أو عملياً . ويكون ذلك على عدة مستويات :
المستوى الأول :
أخذ العبرة من الظلم عقائدياً وتطبيقياً . والنظر إليه كمثال سيء يجب التجنب
عنه والتحرز عن مجانسته .
فان الظلم بما فيه من فلسفات وواجهات ، وبما له من أخلاقية خاصة وسلوك معين ،
سوف لن يخفي نفسه ولن يستطيع ستر معايبه ونقائضه . بل سوف تظهر متتالية نتيجة
للتمحيص ... أساليب الظلم والاعيبة وما يبتني عليه من خداع ونقاط ضعف .
وحسبنا من واقعنا المعاصر أن نرى أن صانعي هذه المبادئ ، يحاولون تطويرها
وتغييرها ، وإدخال التحسينات والترميمات عليها من بين حين وآخر ، حتى لا تنكشف
نقائصها ، ولا تفتضح على رؤوس الاشهاد . إذن فأي مستوى معين من الفكر المنحرف
لو بقي بدون ترميم لكانت التجربة والتمحيص ، أو تطور الحضارة البشرية- على حد
قولهم- كفيلاً في فضح نقائضه وإثبات فشله .
المستوى الثاني :
إتضاح فساد الأطروحات المتعددة التي تدعي لنفسها قابلية قيادة العالم وإصلاحه
... اتضاحاً حسياً مباشراً . ولا زالت البشرية تتربى – تحت التخطيط الالهي –
وتندرج في هذا الادراك ، وإن بوادره في هذا العصر لأوضح من أن تنكر ... بعد أن
أصبح الفرد الاعتيادي يائساً من كل هذه المبادئ من أن تعطيه الحل العادل الكامل
لمشاكل البشرية.
وقد أشير إلى ذلك في الأخبار بكل وضوح . روى النعماني(1) بسنده عن
هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : ما يكون هذا الأمر "يعني
دولة المهدي (ع)" حتى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوا من الناس "يعني باشروا
الحكم فيهم" حتى لا يقول قائل : إنّا لو ولينا لعدلنا. ثم يقوم القائم بالحق
والعدل .
___________________________
(1) الغيبة ص 146 .
صفحة (329)
وفي رواية أخرى(1) : إن دولتنا آخر الدول . ولم يبق أهل بين لهم
دولة إلا ملكوا قبلنا ، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا ، لو ملكنا سرنا مثل سيرة
هؤلاء . وهو قول الله عز وجل : ﴿والعاقبة للمتقين﴾ .
وسنشبع هذه الجهة بحثاً في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة .
المستوى الرابع :
ما يترتب على هذا اليأس من إدارك وجداني متزايد ، للحاجة الملحة العالمية
الكبرى للحل الجديد والعدل الذي يكفل راحة البشرية وحل مشاكلها .
وهذا شعور موجود بالفعل ، بين الغالبية الكبرى من البشر على وجه الأرض ، بمختلف
أديانهم ولغاتهم وتباعد أقطارهم . فانظر إلى التخطيط الالهي الرصين الذي ينتج
الانتظار للحل الجديد ، من حيث يعلم الأفراد أو لا يعلمون.
المستوى الخامس :
إدراك مميزات العدل الاسلامي والعمل الاسلامي والقيادة الاسلامية ، عند مقارنة
نقائه وخلوصه وشموله بالمبادئ المنحرفة والاتجاهات المادية . فيتعين أن يكون
هو الحل العالمي المرتقب .
ويزداد هذا الادراك وضوحاً ، كلما تعلق الفرد بالمقارنة والتدقيق والتقيد
العلمي . فتبرهن لديه بوضوح أن الأطروحة العادلة الكاملة الضامنة لامتلاء
الأرض قسطاً وعدلاً ، هي الاسلام وحده . وللتوسع في هذه البرهنة مجالات أخرى
غير هذا الحديث .
المستوى السادس :
الدربة والتربية على الاقدام على التضحية في سبيل الحق ...ذلك الذي ينتجه
العمل الاسلامي ، كما سبق أن أشرنا، عن طريق التمحيص الاختياري والاضطراري
للأفراد ، وانتقال التمحيص عن طريق قانون تلازم الأجيال .
_______________
(1) أعلام الورى ص 432 .
صفحة (330)
إذا عرفنا ذلك ، فيحسن بنا أن نرى أن أحكام العزلة والجهاد والأمر بالمعروف
التي عرفناهنا ، ماذا تؤثر في هذا التخطيط ، على تقدير إطاعتها ، وعلى فرض
عصيانها ، وهذا ما نعرض له فيما يلي :
أما الفرد المسلم الذي له من الاخلاص والايمان ما يدفعه إلى إطاعة أحكام
الاسلام وتطبيقها في واقعه العملي ، فيندفع حين يريد منه الاسلام الاندفاع إلى
العمل ويعتزل حين يريد منه الاسلام السلبية والاعتزال .
... فهذا هو الفرد الذي سيفوز ، بالقدح الأعلى والكأس الأوفى من النجاح في
التمحيص الالهي ، ويشارك في إيجاد شرط الظهور في نفسه وغيره .
فإن هو اتصل بالمجتمع ، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وحاول الاصلاح في أمة
الاسلام ... فانه سيشعر عنكثب بفداحة الظلم الذي تعيشه هذه الأمة خاصة والبشرية
عامة . وسينقل هذا الشعور إلى غيره ، ويطلع الآخرين بأن أفضل حل لذلك هو تطبيق
الأطروحة العادلة الكاملة المتمثلة بالاسلام .
وإن هو جاهد ، عند وجوب الجهاد أو مشروعيته .. فهذه الوظيفة الاسلامية الكبرى ،
تحتوي – كما عرفنا – على جانبين رئيسيين : جانب تثقيفي وجانب عسكري .
فإذا عرفنا أن الجانب التثقيفي ، ليس هو مجرد طلب التلفظ بالشهادتين ، من غير
المسلمين . بل هو متضمن – على ما ينص عليه الفقهاء – عرض محاسن الاسلام ،
بمعنى إظهار جوانب العدل فيه واثبات أفضليته من النظم الأخرى سياسياً وعسكرياً
واقتصادياً وعقائدياً واجتماعياً وأخلاقياً ... ونحو ذلك ... إذا عرفنا ذلك ،
استطعنا ان نفهم كيف أن الفرد المخلص لدى الجهاد التثقيفي وإن المفكر الاسلامي
لدى البحث عن بعض جوانب الاسلام ... يندفع في تطبيق التخطيط الالهي من حيث يعلم
أو لا يعلم .
فإن المفكرين الاسلاميين ، يسيرون بأنفسهم نحو الكمال ... أولاً .
ويثقفون غيرهم من أبناء أمتهم الاسلامية ... ثانياً . ويطلعون غير المسلمين
على الواقع العادل للاسلام ...ثالثاً . وينفون الشبهات الملصقة بالاسلام
...رابعاً . ولك ذلك مشاركة فعالة فعلية في التخطيط الالهي وفي إيجاد شرط
الظهور . فان لهذا الجو الثقافي الاسلامي الأثر الكبير في فهم المسلمين
لأطروحتهم العادلة
الكاملة ، واستعدادهم للدفاع عنها ، ونجاحهم في الصمود تجاه التيارات المنحرفة
وحصولهم على الاخلاص الممحص في نهاية المطاف .
صفحة (331)