وأما العمل العسركي ، فقد ذكرنا أن ما يمت إلى جهاد الدعوة بصلة لا يشرع وجوده في أيام التمحيص وفقدان الامام .  كيف وهو لا يقوم به إلا الأفراد الممحصون ، كما عرفنا .  إذن فهذا الجهاد لا يكون إلا نتيجة للتمحيص ، فلا يمكن أن يكون مقدمة له وسبباً لوجوده .

وأما العمل العسركي الدفاعي ، فهو بوجوبه على غير الممحصين الواعين ، يعطيهم درساً قاسياً في تحمل الضرر من أجل الاسلام ، والتضحية في سبيل الله ... ويربيهم عن طريق هذه التجربة تربية صالحة .  من حيث أن فكرة وجوب حفظ بيضة الاسلام وأصل كيانه ، واضحة في أذهانهم .

كما أنه يكون محكاً لامتحان الآخرين الذين يتخاذلون عن الدفاع عن الاسلام ويعطون الدنية من أنفسهم للمستعمر الدخيل ، أو يحاربون تحت شعارات لا إسلامية ... فيفشلون في التمحيص الالهي فشلاً مؤسفاً ذريعاً .

فإن أفاد الدفاع وانحسر المد الكافر ، فقد انتصرت التضحية في سبيل الله تعالى ، وتكلل العمل الاسلامي الكبير بالنجاح .  وإن خسرت الأمة ذلك وسقطت بين  المستعمر الدخيل ، بدأت سلسلة جديدة من حوادث التمحيص والاختبار الالهي ، التي تتمثل بما يقوم به المتسعمر من ظلم وتعسف وما يدسه من تيار فكري ونظام اقتصادي غريب عن الاسلام . وما يكون لأفراد الأمة من ردور فعل تجاه هذا الظم الجديد .  فقد ينجح في التمحيص أقوام وقد يفشل آخرون .  طبقاً للقانون العام ...

وعلى أي حال ، فالعمل الإجتماعي الاسلامي بقسميه الرئيسيين : الجهاد والأمر بالمعروف ، مشاركة فعالة في التخطيط والتمحيص الالهيين . وهما المحك فشل أعداد كثيرة من المسلمين يتخلفون عن هذا الواجب المقدس وتتقاعس عنه ، فشل في الامتحان وتخرج عن غربال التمحيص ... فتبوء بالذل والخسران .

وأما العزلة ، فإن كانت تتضمن تركاً للعمل الاجتماعي الواجب في الاسلام ، فهي العصيان والانحراف بعينه .  وبها يثبت فشل الفرد في الامتحان الإلهي وأما إذا كانت العزلة ، منسجمة مع التعاليم الاسلامية ، واجبة أو جائزة ... فتكون داخلة ضمن التخطيط الالهي لا محالة ، باعتبار ان إدخالها في التشريع يراد به جعلها مشاركة في تنفيذ هذا التخطيط الكبير .  وتكون مشاركة الفرد فيها منتجة لعدة نتائج مقترنة مترابطة .

صفحة (332)

النتيجة الأولى :

انسجام عمل الفرد مع متطلبات التخطيط الالهي ومصالحه .فان العزلة إنما شرعت لمصالح تعود إلى هذا التخطيط، فيكون امتثال المكلف لوجوبها مشاركة حقيقية ، فيما يراد انتاجه من المصالح في إيجاد شرط الظهور .
بخلاف ما لو لم يعتزل ، كما لو جاهد بغير إذن أو أمر بالمعروف مع احتمال الهلاك ، فانه يكون من الفاشلين في التمحيص ، فيسقط رقمه من المخلصين الممحصين ... من حيث أراد العمل الاسلامي .

النتيجة الثانية :

النجاح في التمحيص ، فان المعتزل للعمل حين يراد منه الاعتزال ، يكون قائماً بوظيفته العادلة الكاملة ، ويكون ذلك سبباً لنجاحه في التمحيص ، من حيث كونه صابراً على البلاء محتسباً عظيم العناء .

لكننا يجب أن نلاحظ في هذا الصدد نقطتين مقترنتين :

الملاحظة الأولى :

إن العزلة ، وإن كانت مطابقة للتعاليم والتخطيطات الالهية عند مطلوبيتها ، إلا أن أثرها في إيجاد الاخلاص العالي والواعي في نفس الفرد ، لا ينبغي أن يكون مبالغاً فيه . فان العزلة ، على أي حال ، تعني السلبية والانسحاب ، والسلبية – في الأعم الأغلب – تعني الراحة والاستقرار . ومن الواضح جداً أن الفرد لا يتكامل إخلاصه ووعيه الاسلامي ، إلا بالعمل والتضحية ومواجهة الصعوبات ، لا بالراحة والاستقرار .  أو على الأقل ، سيكون تكامل الفرد في حال السلبية أبطأ منه في حال العمل ... في الأعم الأغلب .

ومن هنا نرى الاسلام يمزج في تشريعه بين العزلة حيناً والعمل أحياناً . لكي تكون إطاعة المكلف على طول الخط سبباً لتمحيصه ... عاملاً او معتزلاً .فان العزلة مع استشعار كونها طاعة لله ومع استعداد الفرد في أي وقت للتضحية والفداء ... تشارك مشاركة فعالة في نجاح الفرد في التمحيص .

صفحة (333)

الملاحظة الثانية :

إن العزلة عند مطلوبيتها ، تكون منتجة للتمحيص بالنسبة إلى الفرد المنعزل خاصة دون غيره .  بخلاف العمل ، حين يكون مطلوباً ، فانه ينتج تمحيص الفرد القائم بالعمل وغيره .

ومن هذا الفرق إلى الفرق بين المفهومين ، في أنفسهما ، فان العمل حيث يعني الاتصال بالغير بنحو أو بآخر ، فأنه يجعل كلا الطرفين تحت التمحيص ، ليرى من يحسن السلوك فينجح ومن يسيئوه فيفشل .

وأما العزلة ، فحيث أنها لا تتضمن طرفاً آخر ، بل تقتضي الابتعاد عن الغير ، في حدودها ، فلا تكون منتجة للتمحيص إلا للفرد المعتزل نفسه .

النتيجة الثالثة :

حفظ النفس عن القتل من دون مبرر مشروع . كالذي يحدث فيما لو جاهد في مورد النهي الشرعي عن الجهاد ، أو أمر بالمعروف في مورد الضرر البليغ ... أو تابع المنحرفين فأدى به انحرافه إلى القتل ... أو غير ذلك .

ومن المعلوم ما في حفظ النفس من الأهمية ، لا باعتبار أصل تشريعه ، وإن كان مهمّاً جداً ، بل باعتبار دخله في التخطيط الالهي لليوم الموعود . فان قوانين التمحيص إنما تكون مطبقة في العالم عند وجود الأفراد وقيامهم بالسلوك المعين الذي يربيهم ويحملهم على التكامل . وأما إذا أهلك الفرد أو عدد من الأفراد أنفسهم في غير الطريق الصحيح ، فمضافاً إلى أنهم سيبوءون بالفشل في التمحيص ، فأنهم يتسببون إلى قلة الأفراد الممحصين ، ومن ثم الناجحين في التمحيص منهم .

إذن فلا بد من الحفاظ على النفس ، لكي تتعرض للتمحيص ، فلعلها تكون من الناجحين ، وتشارك في إيجاد شرط الظهور .

وهذا هو المفهوم الواعي والغرض الأعمق للتقية الواجبة ، المنصوص عليها في القرآن وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام .  وسنعرف عنها بعض التفصيل في النقطة الثالثة الآتية .

صفحة (334)

                                                * * *                              

وبهذا استطعنا أن نلم بمفهوم العزلة ونتائجه .وعرفنا أن المراد منها ليس هوالانصراف التام عن المجتمع والاعتكاف في الزوايا ... كيف وان العمل الاجتماعي قد يكون واجباً في الاسلام ،فتكون هذه العزلة من المحرمات.

بل المراد منها اعتزال العمل الاجتماعي غير الواجب او العمل المحرم . والعزلة في موارد مطلوبيتها تشارك في المنهج العام للتخطيط الالهي لايجاد شرط الظهور .  كما سبق أن فصلنا .

وعلى أي حال ، فالاندفاع في أي من المسلكين : العمل والعزلة ، إلى نهاية الشوط غير صحيح ، وإنما الصحيح هو قصر السلوك على مقتضيات العدل ومتطلبات الاسلام فان كان العمل واجباً كان على الفرد أن يعمل وإن كانت العزلة واجبة كان على الفرد أن يعتزل ، ليكون بهذا السلوك ناجحاً في التمحيص محققاً في نفسه شرط الظهور .

وبهذا انتهى الكلام في النقطة الثانية ، فيما تقتضيه القواعد العامة من الالتزام بالجهاد أو بالعزلة .

النقطة الثالثة :

فيما دلت عليه الأخبار الخاصة من التكليف خلال الغيبة الكبرى ، تجاه ما يكون فيها من الانحرافات وأنواع الظلم والفساد .

وأكثرها – كما أشرنا فيما سبق – دال على لزوم العزلة والابتعاد عن الناس وترك الأقوال والنشاط على المستوى الاجتماعي .وسنرى فيما يلي مقدار مطابقتها للقواعد العامة التي عرفناها .  فان استطعنا أن نفهم لها وجهاً صحيحاً منسجماً مع ما سبق أخذنا بها ، وإلا اضطررنا إلى ترك الرواية المخالفة للقواعد ، وخاصة بعد التشدد السندي الذي التزمناه .

صفحة (335)

القسم الأول :

وهذه الأخبار ذات مضامين ومداليل مختلفة ، فنقسمها بهذا الاعتبار إلى أقسام

في الفتنة التي فيها القاعد خير من القائم .

أخرج الصحيحان(1) بلفظ واحد عن رسول الله (ص) أنه قال : ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . من تشرف لها تستشرفه . ومن وجد فيها ملجأ فليعُذ به . وذكر كل من الشيخين لها أكثر من سند واحد .

وأخرج مسلم (2) عنه (ص) : أنها ستكون فتن . الا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها .  الا فإذا نزلت أو وقعت ، فمن كان له أبل فليلحق بابله ، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بارضه .. الحديث .  وذكر له سندين .

وقد أخرج غيرهما من أصحاب الصحاح ، هذا المضمون غير أننا نقتصر عليهما فيما أخرجاه .  وهو مضمون اقتصر إخراجه على مصادر إخواننا أهل السنة ، ولم نجد في المصادر الإمامية له ذكراً .

ولفهم هذه الأخبار أطروحتان ، بعد العلم أن الفتن قد يراد بها التمحيص والإختيار ، وقد يراد بها النتيجة السيئة للتمحيص أعني الكفر والإنحراف . وكلاهما من معانيها اللغوية . وقد جاء طبقاً للمعنى الأول قوله تعالى : "وفتناك فتوناً "(3) وقوله : "وظن داود إنما فتناه" (4) . وطبقاً للمعنى الثاني قوله تعلى : "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك "(5) . وقوله:"إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم" (6).
____________________
(1) أنظر البخاري ، جـ 9 ، ص 94 . ومسلم ، جـ 8 ، ص 168.  (2) جـ 8 ، ص 169 .  (3) طه . 20/40 .
(4) ص 38/24 .  (5) المائدة : 5/49 .  (6) البروج : 85/10 .

صفحة (336)

ولكن المعنى الأول ن غير مراد من هذه الروايات جزماً ، إذ لا معنى للتخلص والإنعزال عن التمحيص ، بعد كونه قانوناً منطبقاً على كل البشر ، في التخطيط الإلهي . فيتعين أن يراد بالفتن المعنى الثاني ، وهو الكفر والإنحراف .  وطبقاً لهذا المعنى يكون في فهم هذه الروايات أطروحتان :

الأطروحة الأولى :

أن النبي (ص) يشير غلى زمان مسقبل بالنسبة إلى عصره ، تحدث فيه الفتن . 

وينصح المسلمين بالإنصراف عنها والإنعزال عن تيارها والقعود عن العمل معها أو ضدها .. بل اللازم هو اللجوء إلى ملجأ أو الخروج إلى البوادي والأطراف هرباً من التدخل في الفتنة .

وإذا صحت هذه الأطروحة ، تكون هذه الأخبار ، موافقة للقواعد العامة التي عرفناها عند وجوب العزلة ، ومخالفة لها عند وجوب العمل والجهاد حيث نرى هذه الأخبار تأمر بالعزلة على كل حال .

الأطروحة الثانية :

أن النبي (ص) يشير غلى الفتن نفسها ، بقوله : ستكون فتن . لا إنه يشير إلى الزمان الذي تقع فيه ، كما هو الوجه في الأطروحة الأولى . فإنه لا ذكر للزمان في هذه الروايات أصلاً . فيكون المراد : أن القاعد عن تأجيج الفتن وإثارتها والمشاركة فيها خير من القائم والقائم خير من الساعي ، كلما كانت أقل ، كان أفضل .

ومعه يكون مضمونها صحيحاً ومطابقاً للقواعد . فان المشاركة في الفتنة مستلزم للإنحراف والفساد لا محالة ، وهو مما لا يرضاه النبي (ص) لأمته ، وينصح بالتجنب عنه . وهذا في غاية الوضوح . ومعه تخرج هذه الروايات عن كونها آمرة بالعزلة . وإنما هي تأمل بالإنعزال عن الفتن بل على وجوبه . فإن هذا العمل قد يكون هو الملجأ الوحيد للتخلص من الفتن .  وقد أمر (ص) أن : "من وجد فيها ملجأ فليعُذ به" .

صفحة (337)

وعلى هذه الأطروحة عدة قرائن مرجحة لها من عبائر هذه الأحاديث الشريفة :

القرينة  الأولى :

قوله (ص) : من تشرف لها تستشرفه .

فإن المراد أن من تعرض للفتن أثرت الفتن عليه وجرفته بتيارها . يقال : تشرف للشيء إذا تطلع إليه .  واستشرف : إنتصب . ومن المعلوم أن الغالب من أفراد الأمة ، ممن لا عمق له في التفكير ، ولا دقة في النظر ، بمجرد اطلاعهم على المذاهب والفلسفات اللاإسلامية ، تنتصب هذه المذاهب في أذهانهم ، بمعنى أنهم يرون لها هيبة وهيمنة ،ويكونون في طريق الإعتراف بها والتصديق بمضمونها .. فيؤدي ذلك بهم إلى الإنحراف عن الإسلام.

وأما العمل الذي يعطي للفرد والآخرين المناعة عن الفتن الكافية للإضطهاد ومناقشتها ، فهو من أعظم الأعمال الإسلامية ، ومما لا تنفيه هذا الروايات ، طبقاً لهذه الأطروحة .

القرينة الثانية :

قوله : الساعي إليها .

فان السعي إليها منضمن للتعرض لها والسير في ركابها . ومنه نعرف أن المراد مما سبقه من القيام في الفتنة والمشي فيها هو ذلك أيضاً . ومعه لا يكون لها أي تعرض للنهي عن العمل ضدها أصلاً .

القرينة الثالثة :

قوله : من وجد فيها ملجأ فليعُذ به ، بعد أن تفهم أن (في) بمعنى (من) فكأنه قال :من وجد منها .  ولا شك أ، المراد هو ذلك على أي حال .

والوجه في هذه القرينة : أن الملجأ لا ينبغي أن نفهم منه خصوص المكان المنزوي أو البعيد ، بل نفهم منه كل منقذ من الفتنة وما هو مبعد عنها . ومن المعلوم أن الإرتباط بأهل الحق ، واتخاذ العمل الإسلامي ، خير ملجأ ضد تيارات الفتن والإنحراف .
نعم ، لو انحصر حال الفرد في النجاة من الفتنة أن يفر عنها ويبتعد منها ، وجب عليه ذلك ، بأن يلحق بالأرياف إذا كان له فيها غنم أو إبل ! بتعبير الرواية .

صفحة (338)

ولعل سبب التركيز على هذا الشكل من السلوك ، في هذه الأحاديث .  هو أن أغلب أفراد الأمة الإسلامية في أغلب عصور الغيبة الكبرى ، جاهلون بتفاصيل الشرع الإسلامي وعدم العمق فيه عمقاً يعطي المناعة الكافية عن الإنحراف والتأثر بالمبادئ الغريبة والآراء المريبة .  إذن يكون الواجب على الفرد إذ يشعر بمسؤولية صيانة نفسه من ذلك كله .. أن يعتزل المجتمع ويضحي بالغالي والنفيس في سبيل دينه .. وإن ألقى به الإعتزال في الريف .  وهذا حكم صحيح على القاعدة ، كما ذكرنا في الصورة الرابعة للعزلة .

وهذا لا يعني ، أن الفرد المسلم الذي يجد من نفسه قوة في الصمود وقابلية على مجابهة التيار الظالم ، يجب عليه أيضاً أن يعتزل .  كلا . بل يجب عليه أن يعمل وأن يخطط لأجل إعلاء كلمة الله وترسيخ الفهم الإسلامي في نفوس الآخرين .

القسم الثاني :

ما دل من الأخبار على عدم المشاركة في القتل ، بل تحمله من الغير ، وإن كان قاتلاً ظالماً .

أخرج إبن ماجة (1) وأبو داود (2) عن أبي ذر ، بلفظ متقارب واللفظ لإبن ماجة في حديث قال : قلت : يا رسول الله، أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك ؟ قال : شاركت القوم إذن ! ولكن أدخل بيتك .  قلت يا رسول الله ، فإن دخل بيتي ؟ قال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق طرف ردئك على وجهك ، فيبوء بإثمه وإثمك ، فيكون من أصحاب النار .

وأخرجا(3) أيضاً بلفظ متقارب واللفظ لإبن ماجة ، قوله في حديث عن الفتن : فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم وأضربوا بسيوفكم الحجارة .  فإن دخل على أحدكم ، فليكن كخير ابني آدم .
_______________________
(1) جـ2 ، ص1308 .  (2) جـ2 ، ص 417 .  (3) ابن ماجة ، جـ2 ، ص 1310 ، وأبو داود ، جـ2 ، ص 416 .

صفحة (339)

وأخرج الترمذي (1) في حديث بنفس المضمون قال : أفرأيت إن دخل على بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : كن كإبن آدم .

وفي هذه الأحاديث إشارة واضحة إلى قوله تعالى : (واتل عليهم نبأ إبني آدم بالحق ، إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر .  قال : لأقتلنك .  قال : إنما يتقبل الله من المتقين .  لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ، إني أخاف الله رب العالمين . إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ،فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين )(2) .

لم نجد هذا المضمون ، في الصحيحين ، ولا في أخبار المصادر الإمامية .

والمدلول العام لهذه الروايات ، هو وقوع القتال في داخل المجتمع المسلم بعد رسول الله (ص) نتيجة للفتن والإنجراف . فيكون من وظيفة المسلم يومئذ ، عدم المشاركة في القتال إلى جنب أي من الفريقين .  بل يجب عليه أن يعتزل ويدخل بيته .  فإن دخل عليه المقاتلون في جوف بيته ، وجب عليه أن يستسلم للقتل من دون مقاومة .  ويكون حاله حال المقتل من إبني آدم الذي يبسط يده لقتل أخيه .  وقد مدحه الله تعالى في محكم الكتاب .

إلا أنه لا بد لنا من رفض هذا المضمون جملة وتفصيلا ، لمعارضته لضرورة الشرع والعقل .
 _______________
(1) جـ3 ، ص 329 .  (2) المائدة : 5/27-29 .

صفحة (340)

فإن الفرد المسلم إذا رأى الحرب قائمة في المجتمع المسلم بين فئتين مسلمتين .. فإن حاله من حيث الإقتناع الوجداني النابع مما يعرفه من قواعد الأمر الأول :

أن يعمل ان أحد الفريقين إلى جانب الحق والآخر إلى جانب الباطل .  كما لوكان الرئيس الشرعي للدولة الإسلامية، يحارب فئة باغية عليه منحرفة عنه .. ففي مثل ذلك يجب على المكلف الإنضمام إلى طرف الحق ضد الباطل .  طبقاً لقوله عزمن قائل : (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله )(1) .وإنما يتحقق البغي فيما إذا كان أحد الطرفين المتحاربين يستهدف هدفاً باطلاً.  ومن ضرورة الشرع والعقل وجوب محاربة الباطل وحرمة نصرته.

الأمر الثاني :

أن يعلم الفرد أن الحق مجانب لكلا الفريقين ، وأن كليهما ينصر مذهباً باطلاً ويدافع عن هدف منحرف ، أو – على الأقل – يشك في ذلك ويحتمله احتمالاً .  وفي مثل ذلك لا يجوز له نصرة أي من الفريقين ، كما هو واضح .  فان نصرة أي منهمانصرة للإنحراف والضلال ، يقيناً أو احتمالا ... وكلاهما محرم في الإسلام .

ومدلول هذه الروايات ، من حيث وجوب الإعتزال عن كلا الفريقين ، لو حمل على ذلك بالخصوص ، لكان أمراً صحيحاً .  ولعل هذا هو مراد النبي (ص) من قوله : شاركت القوم إذن .يعني في الباطل والإنحراف.إلا أن شمول الرواية لصورة الأمر الأول يبقى نافذ المفعول،وهو أمر غير صحيح .

كما أن الأمر بتحمل القتل لو دُخل في بيته ، أمر لا يمكن قبوله ، لأنه مخالف لضرورة العقل والشرع معاً في وجوب الدفاع عن النفس ، وفي كون المستسلم للقتل  قاتل لنفسه ، في الحقيقة فيبوء بإثم نفسه ، لا أن القاتل يبوء بالإثمين معاً .  ويكون كلاهما مشمولاً لقوله تعالى : (ومن يقتل مؤمناً متعمدا ًفجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما) (2) .أما إثم القاتل لمباشرته القتل. وأما المقتول فلأنه سبب إلى قتل نفسه .

وقد يخطر في الذهن : أن الفرد إذا كان أعزل عن الأسلحة تماماً ، يكون الدفاع متعذراً عليه .  ومعه يكون الأمر بتحمل القتل منطقياً بالنسبة إليه .

وجوابه : أن هذا صحيح بالنسبة إلى الأعزل ، لكنه غير صحيح بالنسبة إلى هذه الروايات ، فإنها واردة في غير العزََّل ، تأمرهم أن يكسروا قسيّهم ويقطعوا أوتارهم وأن يضربوا بسيوفهم الحجارة .  فإذا تلفت أسلحتهم وجب عليهم تحمل القتل طواعية.. وهذا مضمون مستنكر في العقل والشرع.. تعلم بعدم صدوره عن النبي(ص).
______________________
(1) المائدة : 5/27-29 . (2) النساء : 4/93 .

صفحة (341)

وأما ما ورد في أخبار الفريقين من أنه إذا التقى المسلمين بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، فهو خاص بغير الدفاع عن النفس جزماً. فإنه إذا كان الفرد مدافعاً عن نفسه يكون محقاً وحربه عادلاً! بضرورة العقل والشرع.

ومن هنا نعلم سلامة موقف "ابن آدم" المقتول. فإنه لادلابلة في الآية على أنه لم يدافع عن نفسه، وإن لم يكن في نيته أن يقتل أخاه. وإنما سيطر عليه أخوه بقوته فقتله. بخلاف ما تدل عليه هذه الرويات، من السلبية المطلقة حتى عن الدفاع عن النفس.

إذن، فلا سبيل إلى الأخذ بهذا القسم الثاني من الروايات. وخاصة طبقاً للتشدد السندي الذي مشينا عليه.

ويكفينا أن نعرف أن كثيراً من الأخبار وضعت ودسّت في أخبار الإسلام، نصرة للجهاز الحاكم المنحرف، الذي كان يحاول أن يسبغ صفة الشرعية على تصرفاته، فيمنع من مجابهة ظلمة ومقابلته بالسيف، لكي تستقيم له الحال، ويهدأ منه البال، منطلقاً من أمثال هذه الأخبار.

القسم الثالث: في الأمر بلزوم البيت

لم نجد هذا المضمون في الصحيحين، ولكن أخرج أبو داود(1)- في حديث عن الفتنة- عن رسول الله (ص): قالوا: فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم.

وأخرج ابن ماجة(2) عنه (ص) أنه قال: إنها ستكون فتنة وفرقة وإختلاف، فإذا كان كذلك، فأت بسيفك أحداً فاضربه حتى ينقطع. ثم إجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية. وصحح سنده.

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(3) عن الإمام الباقر علييه السلام حتى يسأله الراوي: فما أفضل ما يستمله المؤمن في ذلك الزمان – يعني زمان الغيبة – قال: حفظ اللسان ولزوم البيت.
ـــــــــــــــــ

(1)  
جـ2، ص 417. (2)   جـ2، ص 1310. (3)   أنظر المخطوط.

صفحة (342)