الشرط الثاني  

وجود القائد المحنك الكبير الذي له القابلية الكاملة لقيادة العالم كله  

ويتم الكلام حول هذا الشرط ضمن نقطتين :

النقطة الأولى :

يرجع هذا الشرط بالتحليل إلى شرطين :

أحدهما : اشتراط وجود القائد للثورة العالمية .  حيث لا يمكن تحققها من دون قائد .

ثانيهما : أن يكون لهذا القائد قابلية القيادة العالمية .

أما اشتراط وجود القائد ، فقد برهنا عليه في بحث سابق عن أهمية القيادة في التخطيط الالهي .  وكل ما نريد إضافته هنا ، هو التعرض إلى :

قيادة الجماعة :

فإن البديل المعقول الوحيد لقيادة الفرد ، هو قيادة الجماعة .  فإذا استطعنا مناقشة قيادة الجماعة وإبطاله ، يعني الأخذ بقيادة الفرد ، والإيمان بها كسبب وحيد رئيسي لنجاح اليوم الموعود .

فان حال الجماعة لا يخلو من أحد ثلاثة أشكال :

الشكل الأول :

أن يكون كل فرد قابل لقيادة منفرداً فضلاً عن الاجتماع .

الشكل الثاني :

أن يكون كل فرد ناقصاً غير قابل لهذه القيادة ، ولكن الرأي العام المتفق عليه بينهم ، قابل لهذه القيادة .

الشكل الثالث :

أن يكون كل فرد ناقصاً ورأيهم العام ناقصاً أيضاً .

أما الشكل الأول ، فلا شك أنه لا بد من اسقاطه عن نظر الاعتبار ، لعدم تحققه في أي ظرف من ظروف التاريخ وعدم تحققه في المستقبل أيضاً ما دامت البشرية .  ولم يدّعه أحد من المقنتين أو المتفلسفين أو الاجتماعيين أصلاً.

صفحة (401)

فإذا توقف اليوم الموعود على مثل هذا الشكل ، كان غير ممكن التطبيق إلى الأبد ، وهو خلاف اجماع أهل الأديان السماوية المعترفة باليوم الموعود .

على أن افتراض : أن مجموع الأفراد إذا كانوا قابلين للقيادة منفردين ، كانوا قابلين لها مجموعين ... افتراض غير صحيح ، لأن ممارسة القيادة الجماعية تصطدم بتنافي الآراء وتضادها ، بخلاف القيادة الفردية .  وتنازل البعض أو الأقلية عن آرائهم بازاء الآخرين ، طبقاً للمفهوم الديمقراطي الحديث ... يعني التنازل عن عدد من الآراء الكبيرة القابلة لقيادة العالم – كما هو المفروض في هذا الشكل الأول – وهو خسارة عظيمة وظلم مجحف .

وأما الشكل الثالث : فلا شك من ضرورة اسقاطه عن الاعتبار أيضاً ، فان اجتماع الناقصين لا يمكن أن يحقق كمالاً.فإذا كان رأيهم المتفق عليه ناقصاً ، كانت قيادتهم ناقصة ، وتعذر عليهم تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة ، بطبيعة الحال .

فإن قال قائل : إن هذا النقصان نسبي وغير محدد المقدار .  فلعله يكون بمقدار ، لا يكون مانعاً من المقصود .

قلنا له : كلا .  فان النقصان بالنسبة إلى كل مبدأ حياتي ، راجع إلى الاخلال بمتطلباته .  فالنقص المقصود هنا ، هو النقص المؤدي إلى الاخلال بمتطلبات الأطروحة الكاملة .  ومعه يكون فرض النقصان مساوقاً مع عدم تطبيق تلك الأطروحة لا محالة .

وأما الشكل الثاني : فهو ممكن بحسب التصور .  بأن يكون رأي الفرد ناقصاً غير قابل للادارة والقيادة .  ولكن يكون الرأي العام المتفق عليه قابلاً لها .

إلا أننا يجب أن نلاحظ أن قيادة العالم وتطبيق الأطروحة الكاملة من الدقة والأهمية ، تفوق بأضعاف مضاعفة قيادة أي دولة في العالم مهما كانت واسعة وكبيرة . ومن هنا كان للرأي العام لأجل أن يكون كاملاً وقابلاً لهذه القيادة ، أن يكون كل فرد من مكوِّنيه بالرغم مما عليه من نقصان ، ذو درجة عليا من الوعي والشعور بالسمؤولية والتدقيق في الأمور ، بحيث يتحصل بانضمامه إلى غيره ذلك الرأي العام المتفق عليه ، القابل للقيادة .  وهذه الصفة لم تصبح غالبة في الأفراد على طول الخط التاريخي الطويل لعمر لابشرية تجاه أي مبدأ من المبادئ فضلاً عن العدل الكامل .  وفي دولة محدودة ، فضلاً عن أفراد البشرية في دولة عالمية .

صفحة (402)

وهذا أمر وجداني يعيشه كل فرد منا بالنسبة إلى ملاحظة أنحاء الفشل والاضطرار إلى التعديلات المتوالية في الدول والسياسات العامة ، مهما كانت قيادتها شخصية أو جماعية .  ولم تنجح أي ديمقراطية جماعية لحد الآن من الخطأ والزلل ، بل العمد في أكثر الأحيان .

وإنما نقول بامكان ذلك : في مورد واحد ، وهو أهم الموارد وأعظمها ، وهو أن هؤلاء الأفراد المخلصين الممحصين الذين عرفنا بعض صفاتهم وأساليب تمحيصهم وتربيتهم ، إذا قاموا بمهمة يوم الظهور وتمرنوا على الحكم واطلعوا اطلاعاً واسعاً ومباشراً على دقائق وحقائق الأوضاع في العالم... فيومئذ يكون ما يتفقون عليه رأياً كاملاً ناضجاً قابلاً للمشاركة في قيادة العالم على وجود الحقيقة ... ومع استمرار التربية بين يدي المهدي (ع) يكون هذا الرأي العام (معصوماً) عن الخطأ لا محالة .

وهذا المستوى هو المشار إليه بقوله تعالى : ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ .  وهو الذي يعتمد عليه المهدي (ع) ويدخل الالهي في قيادة العالم بعد وفاة المهدي (ع) .

وهذه الشورى ليست في الإسلام للمجتمع الناقص أو المنحرف أو الكافر .

وإنما تكون للمؤمنين الكاملين ﴿ الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش ، وإذا ما غضبوا هم يغفرون . والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ، وأمرهم شورى بينهم ، ومما رزقناهم ينفقون ﴾ (1) .

فهذا استطاعت الأمة بالتربية الموسعة المتواصلة ، تحت القيادة الحكيمة ، أن يصل كل أفرادها أو جلهم إلى مثل هذه المرتبة العليا من الكمال ، كان الرأي العام المتفق عليه ، للأمة الاسلامية كلها "معصوماً " لا محالة ، ويكون اجماعها سهل الايجاد إلى حد كبير ، ورأيها قابلاً لقيادة العالم بنفسه .  ويومئذ يكون للديمقراطية القائمة على أساس العدل المحض وجه وجيه إن كان ثمة حاجة للاستغناء عن الحكم الفردي يومئذ .
_________________________________
(1) الشورى : 43/37-38

صفحة (403)

وهذا هو المشار إليه بقوله (ص) فيما روي عنه : لا تجتمع أمتي على خطأ أو على ضلالة .  فان الأمة لا تكون كذلك إلا إذا كان رأيها العام معصوماً . لا ما يكون رأياً عاماً في عصر الفتن والانحراف وانقسام الأمة الاسلامية إلى مذاهب ومبادئ مختلفة .

كما أنه هو المشار إليه بقوله تعالى : ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ باعتبار أن التشريع الذي أنزل إليهم قابل لتربيتهم حتى يكونوا خير أمة أخرجت للناس .

ولن يكونوا على هذا المستوى فعلاً الا مع الطاعة الكاملة ، والوصول إلى مستوى "العصمة" في الآراء العامة .  وأما في عصر الفتن والانحراف ، فلعمري أنهم ليسوا بالفعل خير أمة أخرجت للناس .

ولذا قال الله تبارك وتعالى:﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾(1)ولن تكون الأمة آمرة وناهية ومؤمنة إلا في ذلك العصر .

وعلى أي حال ، يستحيل على عصر الفتن والانحراف ، أن يوجد رأياً عاماً كاملاً عادلاً ، يمكنه أن يقود العالم قيادة جماعية في اليوم الموعود .

ومعه تبطل الأشكال الثلاثة للقيادة الجماعية ، ومعه يتعين أن تكون القيادة منوطة بفرد واحد يكون على المتسوى الكامل من قابلية قيادة العالم قيادة عادلة .

وهذا هو المقصود ، فاننا لا نعني من القائد الواحد إلا ذلك .
_________________________
(1) آل عمران : 3/110 .

صفحة (404)

الشرط الثالث :

وجود الناصرين المؤازرين المنفذين بين يدي ذلك القائد الواحد . وتتعين البرهنة على ذلك والقول به ، بعد نفي فرضيتين :

الفرضية الأولى :

أن يفترض أن هذا الفرد الواحد ، يغزو العالم بمفرده .

وهو واضح الامتناع والبطلان ، مهما أوتي الفرد من كمال عقلي وجسمي ...

بعد التجاوز عن الفرضية الآتية ، وهو إيجاد المعجزة من أجل تحقيق النصر .

فإن قال قائل : بأن هذا القائد يبدأ العمل منفرداً ويستمر به ، حتى يحصل على عدد من الأصحاب والمؤيدين ...كما فعل النبي (ص) .

قلنا : هذا معناه أنه لا يغزو العالم إلا بعد تحصيل المؤيدين والمناصرين ... لا أن يغزو العالم منفرداً

الفرضية الثانية :

إن هذا القائد يغزو العالم عن طريق المعجزة . وقد سبق أن ناقشنا ذلك مختصراً . وحاصل المناقشة تتلخص في جوابين :

الجواب الأول :

أنه لو كانت الدعوة الالهية على طول التاريخ ، قائمة علىإيجاد المعجزات من أجل النصر ز  لما وجد علىوجه الأرض منذ خلقت أي انحراف أو ضلال ، ولما احتاج الأمر إلى قتل وجهاد .  في حين قدمت الدعوة الالهية آلاف الأنبياء والعالمين كشهداء في طريق الحق ، بما فيهم الأئمة المعصومين عليهم السلام ، وأوضحهم الامام الحسين (ع) في فاجعة كربلاء .

ولو كان الأمر كذلك ، لما احتاج اليوم الموعود إلى أي تأجيل أو تخطيط ، إذ يمكن إيجاده في أي يوم منذ ولدت البشرية إلى أن تنتهي . ولعل الأولى والأحسن في مثل ذلك ، أن يكون نبي الاسلام وهو خير البشر هو القائد العالمي المنفذ لليوم الموعود والهدف الأساسي من خلق البشر . مع أنه لم يشأ الله له ذلك .

صفحة (405)

الجواب الثاني :

إن الدعوة الالهية على طول الخط ، على التربية الاختيارية للفرد والأمة ، على السواء .

وذلك : أنه بعد أن وهب الله تعالى للانسان : السمع والبصر ، والفؤاد يعني العقل والاختيار ، وهداه النجدين : طريق الحق وطريق الباطل ، وحمَّله مسؤولية أعماله والأمانة الكبرى التي رفضت السموات والأرض أن يحملنها ، وحملها الانسان ... انه في هذا الجو تبدأ فكرة التمحيص .

ومن المعلوم أن الايمان الممحص ، ولو بشكله البسيط يكون أثمن وأرسخ من الايمان القهري ... فانه يتصف بالفحالة والضيق ، وفي قلة الاستجابات الصالحة المطلوبة من قبل الانسان .  وهذا الايمان القهري هو الذي يمكن أن ينتج من جو المعجزات .

إذن ، فحيث تنتفي هاتين الفرضيتين ، يتعين ما المطلوب ، وهو احياج القائد في تطبيق العدل على العالم إلى الناصرين والمؤيدين ، لكي ينتشر بالجهاد انتشاراً طبيعياً .

وتندرج في هذا الشرط ، الصفات الأساسية التي يجب أن يتصف بها هؤلاء المريدون . ليكون هذا الشرط في واقعه: وجود المؤيدين على النحو المعين لا المؤيدين كيف كان .

إذ من المعلوم أن المؤيدين المصلحيين ، لا يمكن أن يقوموا بالمهمة المطلوبة ، باعتبار ما تحتاجه من التضحيات الجسام التي تنبو مصالحهم عنها من أول الطريق .

وأهم ما يشترط في هؤلاء المؤيدين ، شرطان متعاضدان ، يكمل أحدهما الآخر ، ويندرج تحتهما سائر الأوصاف :

أحدهما : الوعي والشعور الحقيقي بأهمية وعدالة الهدف الذي يسعى إليه ، والأطروحة التي يسعى إلى تطبيقها .

ثانيهما : الاستعداد للتضحية في سبيل هدفه على أي مستوى اقتضته مصلحة ذلك الهدف .

وبمقدار ما يوجد في نفس الفرد من هاتين الصفتين ، يكون الفرد ، قابلاً للعمل الاجتماعي العام والجهاد في سبيل الحق . والتكامل فيهما هو الذي ينتج عن التمحيص الالهي . ووجودهما في العدد من الناس الكافي لغزو العالم وتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة فيه ... الذي هو الشرط الثالث للظهور ... هو النتيجة التي تحصل عن التخطيط الالهي الموعود .  كما سبق أن عرفنا .

صفحة (406)

وبمقدار ما يفقد الفرد من هاتين الصفتين ، يكون عاجزا ًعن العمل والجهاد .

مهما كان مخلصاً في تدينه على الأساس الانعزالي المتقشف المتحنث .  وبمقدار ما تفقد الأمة من هاتين الصفتين تكون عاجزة عن تطبيق العدل في ربوعها ، حتى لو اجتمعت كل أفراد الأمة بل جميع البشرية لانجاحه ، ما دام اجتماعهم مصلحياً غير مخلص ولا واع ولا ممحص .

ومن هنا ، استهدف التخطيط الالهي ، إيجاد التمحيص الذي يربي الأمة التربية التدريجية البطيئة نحو إيجاد هذين الشرطين ، وتكاملهما في نفوس الأفراد ، بحيث يكونون قابلين لقيادة العالم . فيحققون هذا الشرط الثالث . وقد سبق أن حملنا فكرة كافية عن أسلوب ذلك .

                                                          *      *     *

يبقى علينا بعد الاطلاع على الشروط الأساسية للظهور ، التعرض إلى ملاحظتين :

الملاحظة الأولى :

أنه قد يقال بلزوم شرط رابع لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة في اليوم الموعود ، وهو وجود قواعد شعبية كافية ذات مستوى في الوعي والتضحية كاف ، من أجل هذا التطبيق ، لتكون هي رائدة الأول في اليوم الموعود .

فإن المخلصين الممحصين الذين يتوفر فيهم الشرط الثالث ، يمثلون الطليعة الواعية لغزو العالم ، وأما تطبيق الأطروحة فيحتاج إلى عدد أكبر من القواعد الشعبية الكافية ليكونوا هم المثل الصالحة لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة في العالم ، حين يبدأ انتشاره يومئذ .

وهذا الأمر ، لا يخلو من صحة ، وقد وفر الله تعالى له في تخطيطه ، نتيجة للتمحيص ، مستويين من الشعور :

المستوى الأول :

الاخلاص الاقتضائي الذي عرفنا أنه عبارة عن استعداد جماعة للتجاوب مع تجربة يوم الظهور وتطبيقاته ، وقلنا أن هذا الشعور يوجد عند كثير من البشر ، وإن كانوا يمارسون قبل الظهور شيئاً من العصيان والانحراف .

صفحة (407)