المستوى الثاني :

الشعور باليأس من كل التجارب السابقة التي ادعت لنفسها حل مشاكل العالم ، ثم افتضح أمرها وانكشف زيفها ، نتيجة للتمحيص والتجربة .

وينعكس هذا الشعور في النفس ،على شكل توقع غامض لأطروحة عادة جديدة تكفل الحل الحقيقي للمشاكل والمظالم البشرية . وسيتمثل هذا الشعور بالارتباط نفسياً ، بأول أطروحة شاملة تدعي لنفسها ذلك .

وسيكون كلا المستويين من أفضل الأرضيات الممكنة لتلقي يوم الظهور ، على ما سنشرح في التاريخ القادم .

وأما وجود قواعد شعبية موسعة في العالم ، لها شعور واضح بالرضا بتطبيقات اليوم الموعود ، فهو مما لا ينبغي أن نتوقعه ، بعد الذي عرفناه من التخطيط الالهي والحديث النبوي المتواتر ، من أنه لا بد أن تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً ... إلى حين الظهور .

وهو – أيضاً – مما لا حاجة إليه ، بعد وجود هذين المستويين من الشعور ، لدى الناس ... وابتداء المهدي (ع) بغزو العالم ، من زاوية في غاية الشدة والقوة ، على ما سنعرف في التاريخ القادم أيضاً ... وسنعرف الضمانات المتوفرة لانتصاره يومئذ ... بدون أن يؤخذ وجود هذه القواعد الشعبية بنظر الاعتبار .

الملاحظة الثانية :

إن هذه الشرائط الأربعة من شرائط تطبيق العدل المحض في اليوم الموعود .

وإن قلنا : شرائط الظهور ، فتصبح الشرائط ثلاثة ، لأن معنى الظهور مستلزم لوجود قائد معد في التخطيط الالهي لتكفل مسؤولية اليوم الموعود ، وهو يعني التسليم المسبق بتحقق الشرط الثاني . فلا تبقى لدينا إلا شرائط ثلاثة .

ولو غيرنا وقلنا : شرائط الظهور في الاسلام ، فقد أخذنا الشرط الأول مسلّماً مفروض التحقق ، فلم يبق سوى الشرطين الأخيرين .

ولو أننا مشينا خطوة أخرى ، فقلنا بقلة أهمية الشرط الرابع بازاء الثالث ،

بحيث حذفنا الرابع واعتبرناه من الصفات لا من الشرائط ، أو أدرجناه في الثالث ، باعتبار أنهما يعودان إلى فكرة واحدة من نتائج التمحيص ، يتكفل الثالث وجودهما المعقد القليل ويتكفل الرابع وجودها المبسط العريض ... لو مشينا هذه الخطوة ، لم يبق لدينا إلا الشرط الثالث ، وهو وجود العدد الكافي من المخلصين لغزو العالم . وهو الشرط الأساسي الذي قلنا أن التخطيط الالهي ، بعد الاسلام قد استهدفه .

صفحة (408)

إلا أن الاعراض عن الشرطين الأولين ، لا يعني إسقاطهما عن الشرطية ، وإنما يعني ذينك الشرطين ، ويكون التركيز – بطبيعة الحال- على الشرط المتبقي .

ولابد لنا في نهاية المطاف أن نشير أن هناك فرقاً أساسياً بين الشرطين الأولين ، والشرطين الأخيرين .  فالأولان يتوقف عليهما أصل وجود اليوم الموعود . إذ بدون الأطروحة العادلة والقائد الرائد لها ، لا معنى لوجوده أصلاً .  والشرطان الأخيران ، مما يتوقف عليه نجاح اليوم الموعود وتحقيق أهدافه .  وبخاصة الثالث الذي هو وجود العدد الكافي من المخلصين لغزو العالم ، إذ لولا وجودهم لما أمكن النجاح إلا بالمعجزة ، التي عرفنا أن ديدن الدعوة الالهية على عدم إيجادها .

                                                *     *     *

الجهة الثانية :

في ارتباط شرائط الظهور بالتخطيط الالهي .

حملنا – إلى الآن – فكرة مهمة عن هذا الارتباط . ينبغي لنا في هذه الجهة أن نركز الكلام ونفصله ، مع تحاشي التكرار جهد الامكان ... وذلك ضمن نقطتين :

النقطة الأولى :

عرفنا في الفصل الذي عقدناه لبيان التخطيط الالهي لليوم الموعود : ان هذا التخطيط مكرس خصيصاً لأجل إنجاح اليوم الموعود وضمان وجود العدل فيه .

ولو لم يكن لذلك شيء من الشروط ، لأمكن إيجاده في أي وقت . ولأمكن الاستغناء عن التخطيط أيضاً . وإنما تبرهن وجود هذا التخطيط ، باعتبار البرهنة على وجود هذه الشرائط من ناحية ، والبرهان بشكل طبيعي غير اعجازي ، فيما لا ينحصر توقفه على المعجزة .

صفحة (409)

والتخطيط الالهي يقوم بتربية البشرية بأسلوب معين لأجل إيجاد هذه الشرائط تدريجاً خلال عمر البشرية الطويل .

فأول هذه الشرائط وجوداً هو حصول الأطروحة الكاملة العادلة المتمثلة بالاسلام ، باعتبار أن البشرية قبله كانت في مرحلة التربية التدريجية للاعداد لفهم هذه الأطروحة ، كما سبق أن أوضحنا .

ولم يكن في الامكان أن تسود العالم أطروحة سماوية سابقة ، باعتبار كونها (عدلاً مرحلياً ) يقصد به التربية إلى تقبل العدل الكامل أكثر مما يقصد به التطبيق الشامل .  مضافاً إلى ما قلناه من أن تمحيص البشرية لم يكن كاملاً ، وكان لابد لها أن تمر بالتمحيص على الطروحة الكاملة نفسها .

ومن ثم يكون لهذا الشرط السبق المنطقي في التربية على سائر الشرائط الأخرى ... إذ لا معنى لوجود القائد قبل وجود القانون الذي يوكل إليه تطبيقه ... كما لا معنى للتمحيص الكامل المنتج للشرطين الأخيرين ، إلا التمحيص على الأطروحة الكاملة .

فإن قيل : فلماذا لا يمكن وجود القائد قبل وجود الأطروحة أو معها .

قلنا في جوابه : إن أردتم من وجود القائد ، وجوده وممارسته للقيادة فعلاً ... فهذا مما لا يمكن نجاحه قبل وجود الأطروحة العادلة والتمحيص الكامل . وإن أردتم وجوده ، ولو في الغيبة ، بمعنى وجوده قبل الاسلام غائباً حتى يأذن الله تعالى له بالظهور .

فهذا الاحتمال ، يحتوي على اسفاف في التفكير .  إذ لا موجب لوجوده في ذلك الحين .  وإذا كان خالياً عن –الحكمة لم يكن الله تعالى ليفعله . بل ان الحكمة في تأخره عن الاسلام ، لعدة نواحٍ مهمة : منها طول الغيبة طولاً مفرطا ًلو وجد قبل الاسلام .مما يسبب فتح أفواه الشكاكين أكثر . ومنها :عدم وجود ارهاصات كافية واردة لنا من قبل الاسلام لاثبات وجوده لو كان موجوداً . إذن فوجوده يومئذ معناه ضياعه على الناس وانتفاء البرهان على وجوده أصلاً . وهو محذور مهم خطط الله تعالى لرفعه رفعاً باتاً . إلى غير ذلك من النواحي . ومعه فيتعين أن يكون القائد موجوداً ومولوداً بعد نزول الأطروحة العادلة الكاملة ، المتمثلة بالاسلام .

صفحة (410)

وكان ثاني الشروط تحققاً هو وجود القائد المذخور لليوم الموعود ، انطلاقاً من زاوية الاعتقاد بغيبته عليه السلام .

وقد عرفنا لذلك آثاراً مهمة تمت إلى التمحيص بصلة ... كالتربية على طاعته واحترام رأيه وامتثاله . ولولا الغيبة لم يكن تحقق ذلك .  مضافاً إلى مصالح أخرى سنذكرها في الجهة الآتية إنشاء الله تعالى .

ومعه يكون لهذا الشرط التقدم المنطقي في الرتبة على الشرطين الأخيرين ، باعتبار كونهما منبثقين عن التمحيص ... ذلك التمحيص الذي يقوم – بالنسبة إلى جزئه المهم – على تقدم وجود القائد وغيبته ، بحيث لولا ذلك لكان التمحيص  ناقصاً نقصاً مهماً . إلى حد يكاد يتعذر إيجاد اليوم الموعود وإنجاحه ، على ما سنسمع في التاريخ القادم .

وأما الشرطان الأخيران : أعني وجود الناصرين الممحصين بالعدد الكافي لغزو العالم ، ووجود القواعد الشعبية المطبقة ... فما آخر الشرائط تحققاً ... وهما يوجدان مقترنين نتيجة للتمحيص الطويل ، في عصر الفتن والانحراف، خلال عصر الغيبة الكبرى ، كما سبق أن أوضحنا .

النقطة الثانية :

إن هذه الشرائط الذي ذكرناها لليوم الموعود ، مع التحفظ على روحها ، والتوسع في مدلولها ، هي شرائط الدعوة الالهية في كل حين . وبمقدار ما تتضمنه دعوة أي نبي أو إمام من نقاط قوة وتركيز لهذه الشروط ، فانها تستطيع التوسع والانتشار ، وبمقدار ما تفقده منها تأخذ بالضيق والضمور وتضطر إلى الانسحاب الجزئي ، أو الأخذ بالعزلة والتقية .

بل نستطيع القول بأن هذه الشرائط ، بصيغها الموسعة ، تكون هي الشروط الأساسية لنجاح أي دعوة كانت مما يتوقع لها التوسع والانتشار ، أو أنها تطمع بذلك بشكل وآخر .  فبمقدار ما تحرزه من هذه الشروط تستطيع التقدم والسيطرة ، بمقدار ما تسخره منها ، تضطر إلى الانسحاب والعزلة ومجاملة الناس .

ولا يلزمنا في تصور ذلك ، إلا تعميم معنى الشرائط وتوسيعها إلى حد ما ، فيصبح الشرط الأول : هو وجود الفكرة المنظمة القانونية التي تدعي لنفسها إصلاح العالم ... وهو ما يصطل عليه بالمبدأ في لغة العقائديين ، أياً كانت وجهته .

صفحة (411)

فإذا كان للمبدأ قائد محنك قدير ، وكان له من المؤيدين والمخلصين ، المقدار الكافي لنشر دعوته ، ومن القواعد الشعبية المناصرة له المقدار الكافي أيضاً ... كتب لدعوته النجاح والتقدم لا محالة .

وأقصى ما تحاول الدعوات في العالم جاهدة لايجاده ، هو إيجاد هذين الشرطين الأخيرين ، بعد فرض كونها دعوات مبدأية ذات قيادة .  وقد كُرس التخطيط الالهي على تحقيقها أيضاً ، بعد أن أصبحت الأطروحة العادلة الكاملة بميلاد المهدي (ع) دعوة ذات قيادة .

وإن لم تستطع الدعوات إحراز هذه الشرائط ، وبخاصة الشرطين الأخيرين ... كان ذلك سبباً لتقهقرها وتقدم خصومها ومناوئيها . فاما أن تبقى في ميدان الجهاد والمجابهة حتى تفنى عن آخرها وتنقطع دعوتها بالمرة .  وأما أن تأخذ بمسلك السرية والتكتم ومجاملة الناس . لأجل المحافظة على مبدئها وقواده ... وهو المعنى الرئيسي للتقية، كما أوضحنا فيما سبق .

إذن فالتقية تقترن على طول الخط ، وفي جميع الدعوات في العالم ، مع قصور هذه الشرائط عن ضمان النجاح ... كالمسلك الذي تطبقه الأحزاب المبدأية في العصور المتأخرة ، من السرية والكتمان ... وكما أمر به الاسلام في العصر الذي لم تتحقق فيه هذه الشرائط بالنسبة إلى الأطروحة العادلة الكاملة ، وهو عصر ما قبل الظهور .

وعلى أي حال ، فالدعوة الالهية ، على طول الخط ، كانت تدور مدار وجود هذه الشرائط وعدمها .  ويتجلى ذلك بكل وضوح ، في التاريخ الاسلامي . حيث نرى النبي (ص) كان ملتزماً في أول دعوته بالسرية والتكتم أو "التقية" حينما لم يكن الشرطان الأخيران : الأنصار والمؤيدين متوفرين لديه . ولم يبدأ دعوته إلا بعد أن أحرز من محتوى الشرطين ما يكفي لضمان البقاء . ولم يبدأ بالحرب مع الأعداء ، في أول غزواته في بدر ، إلا عندما حصل على العدد الكافي من الناصرين المندفعين بالحرارة العاطفية الثورية ، التي قلنا أنها البديل عندهم عن الوعي والاخلاص الممحص ، لعدم توفر التمحيص الكافي بالنسبة إليهم .

صفحة (412)

واستمر الفتح الاسلامي مبنياً على هذا الأساس ... وإنما بدأ الانحطاط والضمور ، مع الانحراف وقلة اخلاص المخلصين وعدم اندفاع المندفعين .

ونرى الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، إنما يأخذ بزمام الاصلاح في الأمة الاسلامية ، حين يجد الناصرين المؤيدين ، فيناجز الناكثين والقاسطين والمارقين من القتال .  ولولا ذلك ن لم يكن الجهاد لازماً عليه .  كما نفهمه من قوله عليه السلام : أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وأما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ، لا لقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عطفة عنز (1) .

وإنما أخذ الله تعالى على العلماء ذلك ، عند قيام الحجة بوجود الناصر ، وهو عبارة عن توفر الشرط الثالث ، الذي لولاه لما وجب على القائد الاسلامي تكفل القيادة ، ولاعتزال علي عليه السلام هذا المركز الهام ، ولم يغرّه ما فيه من منزلة وشهرة ومال .

وإنما أكد على توفر الشرط الثالث ، باعتبار وضوح توفر سائر الشروط في دعوته عليه السلام . وعدم وجود بوادر انخرامها إلا فيما يعود إلى هذا الشرط . فان دعوته مبدئية ذات قيادة ، وهو بشخصه القائد ... وإنما كان عليه السلام يعاني من توفر الشرط الثالث ... حيث نراه في العهد الأخير من خلافته يخاطب أصحابه بأنهم ملأوا قلبه قيحاً ويتمنى إبدالهم بخير من صرف الدينار بالدرهم . وهذا راجع في حقيقته والتأسف من ضعف الشرط الثالث يومئذ وعدم توفره بالنحو المطلوب ... للظروف التي كان يعيشها المجتمع يومئذ ، مما لا مجال للافاضة فيه .

وحينما يتولى ابنه الامام الحسن عليه السلام مركز الخلافة ، والقيادة ، ويحاول مناجزة القتال للجهاز المنحرف الحاكم ... يتفرق عنه جيشه ، ويستطيع معاوية شراء ضمائر قادته واحداً بعد واحد .  حتى لم يبق للامام (ع) من جيشه ناصر ... اضطر إلى الصلح مع معاوية ... وهذا في واقعه ، رجوع إلى المحافظة على الدعوة المدئية بعد انخرام الشرط الثالث ... أو الرجوع إلى التقية ، بالمعنى الذي قلناه بعد عدم وجود الناصرين المؤيدين .  ولتفصيل ظروف هذا القائد الممتحن الصابر مجال آخر .
___________________________
(1) أنظر نهج البلاغة شرح محمد عبده ، ط. مصر ، ص 31 وما بعدها .

صفحة (413)

ويأتي دور الامام الحسين بن علي عليه السلام بعد ذلك ... فتأتيه مئات الكتب من العراق من الناصرين المؤيدين الثائرين على الحكم الأموي المنحرف ... فتتوفر له "الحجة بوجود الناصر " ..أعني الشرط الثالث ، بعد توفر الشرائط الأخرى .  فيشعر بوجوب قيامه بالدعوة الالهية والثورة لطلب الاصلاح في أمة جده رسول الله (ص) ، كما قال هو عليه السلام (1) .

وإذ ينحرف عنه هؤلاء الناصرون ، وينخرم الشرط الثالث ، نجد ما يترتب عليه من مأساة دموية كبرى في كربلاء ... عليه وعلى آله وأصحابه السلام .  فعيطي بذلك درساً خالداً من التضحية والجهاد في سبيل الأطروحة العادلة الكاملة ، ليكون موقفه محكاً مقتدىً ، لمن يريد أن يكون من الناجحين في التمحيص الالهي الكبير .

ويأتي دور الأئمة المعصومين عليهم السلام المتأخرين عن الامام الحسن (ع) ... فيبدأ عصر الهدنة ، كما سمعنا تسميته بذلك من قبلهم عليهم السلام ... وذلك : باعتبار عدم توفر الشرط الثالث وانعدام الناصرين المخلصين ، أو قلتهم عن المقدار الكافي للثورة .

ويتضح ذلك بجلاء من موقف الامام الصادق (ع) تجاه مبعوث الثورة الخراسانية إليه .  الذي كان يقول له بأن الثائرين هناك أصحابه مؤيدوه ، فلماذا لا يقوم بالجهاد والمطالبة بحقه في الحكم المباشر ... قائلاً : يا ابن رسول الله لكم الرأفة والرحمة ، وانتم أهل بيت الامامة . ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه ، وأنت تجد من شيعتك مئة ألف يضربون بين يديك بالسيف .

فقال له (ع) : اجلس يا خراساني رعى الله حقك . ثم قال : يا حنيفة ، اسجري التنور ، فسجرته حتى صار كالجمرة وأبيض علوه . ثم قال : يا خراساني قم فاجلس في التنور .  فقال الخراساني : يا سيدي يا ابن رسول الله لا تعذبني بالنار ، أقلني أقالك الله .  قال : قد أقتلك .
______________________________
(1) مقتل الحسين ، ص 139 .

صفحة (414)

قال الرواي – وهو حاضر ذلك المجلس - : فبينما نحن كذلك ، إذ أقبل هارون المكي ، ونعله في سبابته .  فقال : السلام عليك يا ابن رسول الله . فقال له الصادق (ع) : ألق نعلك من يدك واجلس في التنور .  قال : فألقى النعل من سبابته ، ثم جلس في التنور . وبعد هنيهة التفت إليه الامام عليه السلام ، وقال : كم تجد بخراسان مثل هذا .  فقال : والله ولا واحداً .  فقال : أما أنا لا نخرج في زمان نجد فيه خمسة معاضدين لنا ، نحن أعلم بالوقت (1) .

يتضح لنا من هذه الرواية أمران مقترنان :

احدهما : الصفة التي يجب أن يتحلى بها الناصر للدعوة الالهية ، نتيجة للاخلاص .  الممحص الذي عاش تجربته واقتطف ثمرته .  وهي الايمان المطلق بالقيادة ، بحيث لا يصرفه عن امتثال تعاليمها صارف ، ولا تأخذه فيها لومة لائم ، وإن جر عليه الوبال ، وإن لم يفهم وجه الحكمة من التعاليم ، بعد أن كان لديه الايمان المطلق بالتعاليم .

ثانيهما : إن هذه الصفة غير موجودة في عصر التمحيص والامتحان ، أو عصر الهدنة ، في العدد الكافي للقيام بالدعوة الالهية .  ومن ثم يكون الشرط الثالث منخرماً .  فلا يكون القيام بهذه الدعوة واجباً ولا يوجد أي ضمان لنجاحها على تقدير القيام بها ... كما كان عليه الحال ، في ثورات الثائرين في عصر الأمويين والعباسيين ، فانها جميعاً كانت تفقد الضمان للنجاح ، فكان يكتب عليها الفشل ، مهما قويت واتسعت برهة من الزمن .

وبهذا نستطيع أن نتبين بوضوح ، الأهمية البالغة للشرط الثالث الذي يريد الله تعالى بتخطيطه العام إيجاده في البشرية من خلال التمحيص ، وما هي النتيجة الكبرى التي سوف ينتجها ، وما هي الصفة التي يتحلى بها المخلص الممحص الذي يستطيع المشاركة في تطبيق العدل الكامل على العالم كله ، بين يدي القائد المهدي (ع) . إذن ، فهذه الشرائط في واقعها ، هي شرائط الدعوة الالهية في كل حين . 

وحيث لم تتوفر على مر العصور ، لم تستطع هذه الدعوة شق طريقها المأمول في العالم بالرغم من أن الله تعالى انزل دينه ﴿ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ .
_____________________________
(1) البحار ، جـ11 ، ص 139 ، عن المناقب لابن شهر اشوب .

صفحة (415)