المستوى الثاني :

إن هؤلاء المنحرفين أو الكافرين الذي يخشى من التفاتهم إلىعلائم الظهور ... لن يلتفتوا إليها ، وإن عرفوا مجملاً أن هناك أخباراً تدل على ذلك .

وتعود غفلتهم عن ذلك إلى عدة أسباب أهمها مايلي :

السبب الأول :

إن الإنحراف بنفسه يحمل الفرد على التشاغل بما تقتضيه مصالحه وانحرافه ... ويبتعد به عن الالتفات إلى النقاط المنبهة إلى الحق في الكون . ومن هنا قد تمر بعض العلائم أو كلها وهو في غفلة عن هذا ، قد جعل انحرافه من بين يديه سداً ومن خلفه سداً عن إدراك الحق والتفاعل معه .

السبب الثاني :

أنهم بعيدون نفسياً وفكرياً عن الفحص عن أخبار هذه العلامات في بطون الكتب والمصادر القديمة ، وعن الفحص عن وجودها الكوني أو الاجتماعي حي تحققها . بعد أن كانت الحياة قد أخذت بتلابيبهم واستغرقت أوقاتهم وجهودهم.

السبب الثالث :

إن هؤلاء حتى لو صادف أن اطلعوا على بعض الاخبار الناقلة لعلامات الظهور أو سمعوها على الأفواه .... فسوف لن يأخذوا منه محصلاً واضحاً أودليلاً موثوقاً ، بعدما عرفنا من اكتنافها بالرمزية وسيرها طبقاً لفهم الناس المعاصرين لعصر الصدور . مضافاً إلى تحقيق السند وتذليل سائر المشكلات التي يحتاج تذليها إلى فهم مترابط متكامل ، وهو مما يفقده الأعم الأغلب من البشر .

وحيث لا يفهم الفرد المراد ، لم يستطع تطبيق العلامة المخبر عنها . على هذه الحادثة أو تلك ، بل يبقى مردداً لديه على طول الخط ... وتبقى العلامات مشتبهة التطبيق في نظره .

السبب الرابع :

إن هؤلاء لو صادف أن رأوا علامة من علامات الظهور ، مهما كانت واضحة ، كالكسوف والخسوف في غير أوانه ... فإنهم سوف يفهمونها فهماً مادياً " علمياً " !! بحتاً ، فإن لم يجدوا حاولوا أن يفكروا في إيجاده . فإن لم يستطيعوا انتظرو أن يأتي العلم بجديد في هذا المضمار ! وأمامنا الآن محاولاتهم عن فهم وجود الحياة على الأرض، ولم يصلوا إلى الآن إلى نتيجة حاسمة ، ولم يقنعوا بعد ، باسنادها إلى غير المادة .... مع أن صراحتها المتيافيزيقية أضعاف الصراحة في علامات الظهور .

صفحة (447)

المستوى الثالث :

أنه لو فرضنا أن أعداء المهدي (ع) ضبطوا علامات الظهور ورأوها عند تحققها وفهموا مغزاها ، واستعدوا ضد المهدي (ع) . فإن الظهور ليس أمراً أتوماتيكياً قهرياً بعد  حدوث العلامات مباشرة . بل هو أمر اختياري مخطط من قبل الله تعالى عز وجل . ومعه فمن الممكن تأجيل الظهور ولو لعدة سنوات ، حتى ينقطع الاستعداد . ولا يظهر المهدي (ع) إلا على حين غرة من أعدائه .

فإن قال قائل : فكيف بالعلامات التي دل الدليل على قربها من الظهور . فإن تخلفه عنها وتأجيله بعدها ، خلاف المفروض .

قلنا : يجاب على ذلك بوجهين :

الوجه الأول :

إن معنى القرب من الظهور ، ليس هو الفصل الزماني بعدة أيام فقط .... وما دل على ذلك يمكن طرحة بالتشدد السندي الذي نمشي عليه ، كما سيأتي في قتل النفس الزكية ... بل القرب الزماني ما يكون مقابلاً للتأخر لقرن أو عدة قرون .... ومعه تكون العشر أعوام والأقل والأكثر قريباً من الظهور . ومن المعلوم أن الاستعداد العسكري لا يبقى مركزاً طيلة هذه المدة.

الوجه الثاني :

إن الدلالات العديدة ، على ما سنذكر في التاريخ القادم ، تدلنا علىحصول الظهور في وقت يصعب جداً على أعداء المهدي (ع) مقابلته بالسلاح . ولو قابلوه فإن ظروفهم الإجتماعية والإقتصادية والطبيعية ، توجب لهم الهزيمة لا محالة .

ومعه فمن الممكن أن نفترض ، أو لا بد لنا أن ندرك أن هذه العلامات القريبة من الظهور ، لا تحدث إلا في زمان يعجز أعداء المهدي (ع) عن مقابلته بالسلاح ... وبعد أن تحدث يمكن أن يتبعها الظهور مباشرة ... وهم لا يستطيعون المقاومة ، ولو استطاعوا شيئاً ، فانهم سيفشلون حتماً .

هذا ، على أن كل من يؤمن بالله تعالى وباليوم الموعود ، يؤمن لا محالة بأن الله تعالى هو الضامن لتطبيق العدد المطلق في الأرض كلها في ذلك الحين ، تطبيقاً لغرضه الأساسي من إيجاد البشرية . وإذا كان الله هو الضامن ، فهو القادر على تنفيذه على كل حال ، ولن يحول دونه حائل .

صفحة (448)

*   *     *

الجهة الرابعة :

في تقسيمات عامة لهذه الروايات :

لنرى ما الذي يمكن الاستفادة منه والاستدلال به وما الذي لا يمكن .

والذي يمكن أن نلاحظه هو انقسام هذه الروايات ، الناقلة للعلامات ، إلى تقسيمين رئيسيين : الأول : منجهة ترتيبها الزماني . والثاني من جهة اعتماده على المعجزة .

ومن هنا ينبغي أن ينطلق الكلام من خلال ناحيتين :

الناحية الأولى : في الترتيب الزمني للحوادث .

ونتكلم في ذلك ضمن عدة نقاط :

النقطة الأولى :

في الحوادث التي دلنا التاريخ على حدوثها .

وذلك: أن النبي (ص) أو أحد الأئمة (ع) يخبر بوقوع بعض الحوادث قبل وقوعها ، مربوطة بالمهدي (ع) أو غير مربوطة ، فتحدث هذه الحوادث فعلاً .

فنجدها ونحن في العصر المتأخر ، قد حدثت وانتهت ونسمع التنبؤ بوقوعها أيضاً . وإن أكبر القرائن على صدق هذه الروايات هو حدوث الامور التي أخبرت بحدوثها ... ما لم يقم دليل خارجي على عدم صحتها في بعض الأحيان ، كما سنشير إليه .

 ومن الطريف أن بعض التنبوءات قد قالها النبي (ص) وسجلها أهل الحديث في مصادرهم ، قبل حدوث الحادثة المطلوبة . ثم حدثت الحادثة فعلاً باليقين في التاريخ . بحيث نعلم جزماً أنها لم تسجل في المصادر بعد حدوثها . وهو لعمري لإحدى المعجزات التي تشارك في الدلالة على صدق العقيدة نفسها فضلاً عن إثبات المهدي (ع) . وأوضح أمثلة ذلك التنبؤ بالحروب الصليبية على ما سنذكره .

صفحة (449)

وما دل الدليل على حدوثه في التاريخ مما ورد التنبؤ بحدوثه ، عدة أمور :

الأمر الأول :

أخبار النبي (ص) بانحراف القيادة الإسلامية في المجتمع بعده . فمن ذلك : ما أخرجه مسلم في صحيحه (1) عن النبي (ص) أنه قال : أنه ستكون هنات وهنات . وأنه (2) قال : ستكون أمراء ، فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف فقد برئ ومن أنكر فقد سلم . وأنه قال (3) أنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ... الحديث .

وعن حذيفة بن اليمان ، في حديث ... فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال :نعم وفيه دخن . قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر . فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر . قال: نعم . دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها (4) .

وعنه (ص) (5) : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال ، قلوبهم قلوب الشياطين ، في جثمان إنس .

وأخرجت الصحاح الأخرى كالترمذي وابن ماجه والمصادر الأخرى كأحمد والحاكم ، مثل ذلك . غير أننا لا نذكر فيما أخرجه الصحيحان أو أحدهما ، إلا عنهما كما سبق .

وهذا ما حدث بالفعل بعد النبي (ص) حين قام الحكم في المجتمع المسلم على المصلحة والأثرة . وتفاصيل ذلك أشهر من أن يذكر . واستعمال المقاصف والخمور في بلاظ الخلفاء يكاد أن يكون من الواضحات ، يذكر في الكثير المصادر (6) . وما ذكرناه في تاريخ الغيبة الصغرى من ذلك كفاية لمن اكتفى (7) .
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)  
جـ 2 ص 22 .  (2)   المصدر ص 23 .  (3)   نفس المصدر والصفحة .   (4)   المصدر ص 20 .  (5)   المصدر والصفحة .
(6)   انظر ابن خلكان جـ 2 ص 234 وأبو الفداء جـ 1 ص 354 وابن الوردي جـ 1 ص 232 والمسعودي جـ 4  ص 11 والكامل جـ 6 ص 221 وغيرها .      (7)   انظر مثلاً ص 124 وص 347 .

صفحة (450)

الأمر الثاني :

أخبار النبي (ص) أو أحد الأئمة (ع) عن شؤون دولة بني العباس . وقد اتخذ ذلك في المصادر المتوفرة لدينا ، عدة أساليب :

الأسلوب الأول :

فيالتنديد ببني العباس والطعن فيهم من حيث انحرافهم وفسادهم وخروجهم عن جادة الحق . وقد اختصت المصادرالإمامية بذلك ، فيما نعلم :

فمن ذلك : ما رواه النعماني في غيبته (1) عن النبي (ص) ، أنه التفت إلى العباس فقال : يا عم ألا أخبرك بما خبرني به جبرئيل ؟ فقال : بلى ، يا رسول الله .
قال : قال لي : ويل لذريتك من ولد العباس . فقال : يا رسول الله ، أفلا أجتنب النساء . فقال : قد فرغ الله مماهو كائن .

وفي حديث آخر (2) : عن عبد الله بن عباس : قال : قال رسول الله (ص) لأبي : يا عباس ، ويل لولدي من ولدك، وويل لولدك من ولدي . فقال : يا رسول الله ، أفلا أجتنب النساء أوقال : أفلا أجب النساء . قال: إن علم الله قد مضى والأمور بيده . وإن الأمر سيكون في ولدي .

ودولة بني العباس ، واضحة للعيان في التاريخ . وما وقع بينها وبين أولاد علي وفاطمة : أولاد النبي عليه وعليهم الصلاة والسلام ، من الخلاف ،وما ذاقوه من بني العباس من التشريد والمطاردة والتعسف ، أوضح من أن يذكر وأشهر من أن يسطر . كما أن ما تكبده العباسيون من ثورات العلويين التي تعد بالعشرات خلال تاريخهم الطويل ، معروف وموصوف . وحسبك أنه قد أشغل الجزء المهم من مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني والكثير من فصول التاريخ الإسلامي . وقد حاولنا أن نستعرض بعضه في تاريخ الغيبة الصغرى ، في حدود ما يعود إلى تلك الفترة (3) .
ـــــــــــــــــــ
(1)  
ص 131 .  (2)   المصدر والصفحة .  (3)   انظر ص 50 وما بعدها إلىعدة صفحات .

صفحة (451)

وهذا التقابل ،هو المصداق الواضح لقوله (ص) : ويل لولدي من ولدك وويل لولدك من ولدي .

وأما قوله (ص) : قد فرغ الله مما هو كائن ، أوأن علم الله قد مضى ، فأوضح ما يراد به هو الإشارة بطرف خفي إلى التخطيط ليوم الموعود ، باعتباره مستلزماً لوجود الإنحراف في المجتمع ، وليس من مصلحة التمحيص رفعه وتبديله قبل يوم الظهور . إذن فهذا التقابل ينبغي أن يكون قائماً ليشارك والتمحيص والتخطيط الالهيين .

وإنما لم يشر إلى ذلك صريحاً باعتبار عدم تحمل المستوى الثقافي لذلك العصر ، التصريح بمثل هذه القوانين العامة الالهية .  وإنما زرقت هذه المفاهيم من خلال الكتاب والسنة تدريجاً .

وأوضح دليل على كون المراد هو ذلك ، قوله (ص) : وإن الأمر سيكون في ولدي .  وذلك في يوم الظهور ، فان أول من يحكم حكماً عاماً نافذاً على العالم من ولد فاطمة وعلي عليهما السلام ، إنما الامام المهدي (ع) .  وبحكمه ينتهي ذلك التقابل بين الفريقين

الأسلوب الثاني : الأخبار بهلاك بني العباس وزوال ملكهم .

كالخبر الذي ورد عن الامام الباقر عليه السلام في حديث أنه قال : ثم يملك بنو العباس فلا يزالون في عنفوان من الملك وغضارة من العيش ، حتى يختلفوا فيما بينهم فإذا اختلفوا ذهب ملكهم (1) .

ودولة العباسيين أسست بعد وفاة الامام الباقر (ع) بثمانية عشر عاماً ، حيث توفى عليه السلام عام 114 (2) وتولى أبو العباس السفاح ، أول خلفاء بني العباس خلافته عام 132 (3) .
_________________________
(1) غيبة النعماني ص 139 . (2) الارشاد للمفيد ص 245 .  (3) مروج الذهب جـ 3 ص 251 .

صفحة (452)

وقد بدأ نجمهم بالأفول عند سيطرة الأتراك على الحكم .  ثم انعزلوا تماما ًعن المشاركة الفعلية في الحكم في عصر البويهيين وعصر السلاجفة .  حتى إذا لم يبق للخلافة أي هيبة أو قيادة ، وتضارب المجتمع المسلم في داخله ، أصبح طعمة سائغة لهجمات التتار بقيادة هولاكو المغولي . حيث سقط آخر خلفائهم عبدالله المستعصم بالله عام 656 (1) .

الأسلوب الثالث :

مدح العباسيين والثناء عليهم وتمجيد بعض خلفائهم .  وقد اختصت برواية هذه الأخبار المصادر العامة .  وليس في المصادر الامامية منها أثر .

فمن ذلك ما أخرجه الترمذي (2) عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) للعباس : إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك حتى أدعو لهم بدعوة ينفعك الله بها وولدك .  فغدا وغدونا معه .  فالبسنا كساء ثم قال : اللهم اغفر للقباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً .  اللهم احفظه في ولده .

قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

وقال في الصواعق (3) : وصح عن الحاكم ابن عباس رضي الله عنهما : منا أهل البيت أربعة : منا السفاح ومنا المنذر ومنا المنصور ومنا المهدي .

وعقب ابن حجر على ذلك بقوله : فإن أراد بأهل البيت ما يشمل جميع بني هاشم ، ويكون الثلاثة الأول من نسل العباس والأخير من نسل فاطمة ، فلا اشكال فيه .  وإن أراد هؤلاء الأربعة من نسل العباس أمكن حمل المهدي في كلامه على ثالث خلفاء بني العباس ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، لما أوتيه  من العدل والسيرة الحسنة .

ولأنه جاء في الصحيح أن اسم المهدي يوافق اسم النبي (ص) واسم أبيه اسم أبيه ، والمهدي هذا كذلك لأنه محمد بن عبد الله المنصور . ويؤيد ذلك خبر ابن عدي : المهدي من ولد العباسي عمي . لكن قال الذهبي : تفرد به محمد بي الوليد مولى بني هاشم ، وكان يضع الحديث (4)  ونحن لنا ثلاثة تعليقات على هذه الأخبار .
________________________________
(1) دليل خارطة بغداد ص 277 .  (2) جـ  5 ص 1319 . (3) ص 99 .   (4) المصدر والصفحة .

صفحة (453)