التعليق الأول :

إن الحديث الثاني غير مروري عن النبي (ص) ، بل عن ابن عباس ، فلا يكون حجة أساساً ، ولا يصلح للاثبات العقائدي ولا التاريخي .

التعليق الثاني :

إن كل هذه الأخبار ، مما لا يمكن أن تثبت أمام التشدد السندي ، حتى مع وثاقة رواتها .  لأن هناك قرينة عامة واضحة تدل على الوضع فيها جملة وتفصيلا .  وهي ممالأتها الجهاز حاكم إطراؤه والثناء عليه ... وكل ما كان هكذا لا يمكن قبوله ، بعد التشدد .  فانه ما أكثر الأحاديث التي وضعت لتأييد الملك وتشييد أركانه وإسباغ صفة الشرعية عليه ... مع شديد الأسف .

التعليق الثالث :

إن واضعي الحديثين الأخيرين ، يريدان القول : بأن المهدي الذي بشر به رسول الله (ص) هو المهدي بن المنصور العباسي ، ونرى ابن حجر يوافق على ذلك ويدافع عنه بالأدلة .

وحقيقة الأمر هو أن كثرة ما ورد عن النبي (ص) في المهدي من أحاديث وشهرتها بين الناس وانتظارهم للمهدي (ع) كمصلح للعالم .. انعكست على ذوي النفوس المنحرفة على شكل الطمع في أن ينال هو أن ولده هذا المنصب الالهي الكبير ، وان ينطبق عليه ثناء رسول الله (ص) وبشارته ، فمن هنا كثرت دعاوى المهدوية في التاريخ الاسلامي .  ومن هنا أيضاً تصدى المنصور إلى تلقيب ولده بالمهدي إيهاماً لذلك ، وخاصة وهو يحتمل أنه سينال الخلافة في يوم من الأيام .

ثم أن كل هؤلاء تهاووا على صخرة الواقع ، حين لم يستطيعوا أن يقوموا بالمهمة الأساسية التي يؤمن بها للمهدي المنتظر كل من يؤمن به ، وهو إصلاح العالم بشكل شامل كامل .  وقد سبق أن قلنا : إن عدم قيامهم بهذه المهمة وانقراضهم قبل ذلك ، أو دليل على كذب دعوى الفرد منهم أنه هو المهدي المنتظر .

وأما ما احتج به ابن حجر من أنه صح أن اسم أبيه اسم أبيه .  فهو مما لم يصح ولم يثبت .  وسوف نبحث عن ذلك في كتاب قادم من هذه الموسوعة .

صفحة (454)

ولعل من أوضح عدم صحة ذلك : إمكان ابتداع ذلك من قبل الكثيرين ، فان بامكان كل شخص اسمه عبدالله أن يسمي ولده محمد ويلقبه بالمهدي ، لكي تكون له أطماع في نيل القيادة أو الرئاسة العامة في المجتمع .

فاللازم ليس هو النظر إلى هذه الصفة بالتعيين ، مما ورد من صفات المهدي ، لكن نطبقها على الأشخاص .  بل اللازم هو توخي مجموع الصفات والخصائص المتعلقة بالمهدي وتطبيقها على الفرد المدعي للمهدوية ، بما فيها من كونه من ولد فاطمة (ع) وبما فيها السيطرة على العالم خلال حياته .  ولا شك أن هذه الأوصاف لا تنطبق على أي واحد من مدعي المهدوية إلى الآن في التاريخ .

الأسلوب الرابع :

أخبار النبي (ص) عن خروج الروايات السود من خراسان ، وجعلها إحدى علائم الظهور .  والأخبار في ذلك كثيرة متظافرة بين الفريقين .  وسيأتي نقلها وتمحيصها في جهة آتية من هذا الفصل .

والمهم الآن ، هو تمحيص وتحقيق هذا الاحتمال وهو أن يكون المراد بهذه الرايات ثورة أبي مسلم الخراساني على الأمويين ، تلك الثورة التي مهدت لقيام الدولة العباسية .  ومعه فتكون هذه العلامة مما قد تحققت في الخارج ، وإن فصل بينها وبين الظهور زمان طويل .  فان ذلك لا ينافي كونها علامة عليه ، كما سبق . 

ويرجح هذا الاحتمال : ان شعار هذه الثورة كان هو السواد وبقي شعاراً للعباسيين بعدها .

ويرجحه أيضاً ما ورد في البحار (1) عن ركائز بن أبي ركاز الواسطي ، قال : قبل رجل رأس أبي عبد الله (الامام الصادق عليه السلام) ، فمس أبو عبد الله ثيابه وقال : ما رأيت كاليوم أشد بياضاً ولا أحسن منها .  فقال : جعلت فداك هذه ثياب بلادنا ، وجئتك بخير من هذه . قال : فقال : يا معتب أقبضها منه .  ثم خرج الرجل .  فقال أبو عبد الله (ع) : صدق الوصف وقرب الوقت .  هذا صاحب الرايات السود الذي يأتي بها من خراسان .  ثم قال : يا معتب الحقه فسله ما اسمه .  ثم قال : إن كان عبد الرحمن فهو والله هو .  قال : فرجع معتب . فقال : قال اسمي عبد الرحمن .  قال : فلما ولي ولد العباس ، نظر إليه ، فإذا هو عبد الرحمن أبو مسلم .
_________________________
(1) جـ 11 ص 142 .

صفحة (455)

ومن الصحيح تاريخياً أن اسم أبي مسلم عبد الرحمن ، وان الامام الصادق معاصر لثورته .  وظاهر قوله : هذا صاحب الرايات السود ... كونه اشارة إلى ما ورد عن النبي (ص) بهذا المعنى ، وخاصة مع قوله (ع) : صدق الوصف وقرب الوقت .  والمراد به قرب خروج الرايات السود أو قرب ثورة أبي مسلم الخراساني ، لا قرب ظهور المهدي (ع) وإن اقترن أخبار النبي (ص) بالبشارة بالمهدي عليه السلام .

إذن ، فهذا الاحتمال يكون راجحاً جداً ، لولا مناقشتين :

المناقشة الأولى :

إن رواة هذا الخبر مجاهيل ، فلا يثبت مؤداه ، فضلا ًعن التشدد السندي الذي التزمناه .

المناقشة الثانية :

معارضته بما ورد عن النبي (ص) أنه قال : "إذا رأيتم الرايات السود قد خرجت من خراسان فأتوها ولو حبواً على الثلج ، فإن فيها خليفة الله المهدي " .  وفي حديث آخر أنه (ص) قال : "انَّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، وان أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء شديدا ًوتطريداً  حتى يأتي قوم معهم رايات سود ...

حتى يدفعونها إلى رجلٍ من أهل بيتي فيملؤها قسطاً كما ملؤها جوراً .  فمن أدرك ذلك فليأتهم ولو حبواً على الثلج، فان فيها خليفة الله المهدي " (1) .

وكلا هذين الخبرين ، واضحان في ارتباط ظهور المهدي (ع) بخروج الرايات السود ، حتى أن الخبر الأول يصرح أنه موجود ضمن حاملي هذه الرايات .  مع أنه من المقطوع به في التاريخ ، وجود ما يزيد على ألف عام بين ثورة أبي مسلم وبين الظهور ، ولعله سيزيد على ذلك بكثير .
_____________________________________
(1) أنظر الخبرين في الصواعق المحرقة ، ص 98

صفحة (456)

إلا أن كلا هاتين المناقشتين لا تصحان :

أما المناقشة الأولى : فلا تصح لأن التشدد السندي الذي التزمناه خاص بأخبار التنبؤ عن المستقبل ، وليس عاماً لكل الأخبار . ومعه فهذا الخبر الذي نقلناه عن البحار لا يندرج ضمن هذا المنهج ،لأنه ليس من أخبار التنبؤ بالمستقبل . إذن فهو قابل إلى حد ما للاثبات التاريخي . وكونه مجهول الرواة لا يضر بذلك ، كما برهنا عليه في المنهج الذي أسسناه في أول تاريخ الغيبة الصغرى (1) .

وأما المناقشة الثانية : فالمعارضة بين الخبرين ، في الواقع ، تنتج فشل الخبرين الأخيرين وسقوطهما عن قابلية الاثبات التاريخي ، وسيكتب البقاء ، عندئذ للخبر الذي نقلناه عن البحار .

فاننا عند دوران الأمر بين صدق هذين الخبرين أو ذلك الخبر ، بحيث يتعين الالتزام بكذب أحدهما ... لا بد وأن نحسب حساب القرائن المؤيدة لأحد الخبرين .

والشيء الذي نريد أن نقوله ، بهذا الصدد هو : إن الجهاز العباسي الحاكم حين وجد أن هناك ارتباطاً بين خروج الرايات السود وبين ظهور المهدي (ع) على لسان رسول الله (ص) ، كما استفاضت الأخبار عنه (ص) على ما سوف نسمع ... أحبوا جعل هذا الارتباط وثيقاً وقريباً ، فجعلوا هذه الأخبار الدالة على ذلك ، لتكون موحية بأن المهدي المقصود هو المهدي العباسي ، لأنه هو المرتبط والقريب من ثورة أبي مسلم الخراساني وراياته السود ، بل هو مندرج في ضمنها بشكل وآخر ، كما جعلوا الحديث دالاً على ذلك .

والذي يدلنا على وضع هذين الحديثين ، ما قاله صاحب الصواعق نفسه حين أوردهما . فقد أورد أولاً قوله : "أنا أهل بيت اختار الله لنا " ... الخ ...  وعلق عليه بقوله : "وفي سنده من هو سيء الحفظ مع اختلاطه في آخر عمره " . ثم أورد قوله "إذا رأيتم الرايات السود ..." الخ .  ثم قال : "وفي سنده ضعيف له مناكير .  وإنما أخرج له مسلم متابعة ، ولا حجة في هذا والذي قبله ، لو فرض أنهما صحيحان لمن زعم أن المهدي ثالث خلفاء بني العباس " (1) .
______________________________
(1) أنظر ص 47 .  (2) الصواعق ص 98 .

صفحة (457)

ولم يطعن ابن حجر في هذين الحديثين ، من رواية كونهما دالين على وجود المهدي المنتظر (ع) ، فانه أورد الكثير من هذه الأخبار مؤيداً غير طاعن فيها .  وإنما طعن فيهما لكونهما ضعيفين حفظاً لموضوعية البحث .

وأما طبقاً للتشدد السندي ، وقيام القرائن على عدم صحة هذين الحديثين ، باعتبار ما فيهما من تأييد للجهاز الحاكم آنذاك ، فينبغي إسقاطهما على كل حال ، كما عرفنا .

وعليه فالمظنون أن المراد بالرايات السود ، رايات أبي مسلم الخراساني ، فان ثورته بدأت من خراسان ، واتجهت إلى بغداد بأعلامها السود الخفاقة . وقد جعلت علامة على الظهور ، باعتبار أهميتها في التاريخ وإلفاقها نظر الجيل المعاصر والأجيال التي بعدها . ولا يضر بذلك الفعل الزماني الطويل بينها وبين الظهور ، كما أسلفنا ، شأنها في ذلك شأن العديد من العلائم التي ذكرت للظهور ، مما سبقت أو سيأتي الكلام عنها .

ولا يبقى في مقابل هذا الظن إلا احتمال أن يكون المراد بالرايات السود ، رايات أخرى تخرج من خراسان في مستقبل الدهر ، لا يكون بينها وبين الظهور إلا القليل .  إلا القليل .  إلا أن هذا الاحتمال مما لا يمكن اثباته بدليل .

وعلى أي حال ، فقد أصبحت أحاديث الرايات السود من أخبار علائم الظهور ، وفيها إشارة لدولة العباسيين ، وإن انتفى القرب الزمني بينهما .  ومن هنا جعلنا هذه الأخبار أسلوباً رابعاً من أساليب التنبؤ بدولة بني العباس .

الأمر الثالث :

ما ورد من التنبؤ بزوال دولة بني أمية ، قبل زوالها ، بطبيعة الحال .

كالخبر الذي ورد عن الامام الباقر (ع) أنه قال:"يقوم القائم في وتر من السنين : تسع ، واحدة ، ثلاث ، خمس ". وقال : "إذا اختلف بنو أمية وذهب ملكهم " .  الحديث (1) .
وقد عرفنا أن الامام الباقر (ع) قد توفي قبل زوال ملكهم وقيام دولة العباسيين ، بثمانية عشر عاماً .
______________________________
(1) غيبة النعماني ص 139 .

صفحة (458)

الأمر الرابع :

ما ورد من التنبؤ باختلاف أهل المشرق والمغرب .

كالذي ورد عن الامام الباقر (ع) أيضاً ،في نفس الحديث الأخير ،حيث قال : "واختلف أهل المشرق والمغرب "(1).

ولهذا الاختلاف أطروحتان ، قد يكون المراد أحدهما ، وقد يكون المراد كلاهما :

الأطروحة الأولى :

اختلاف أهل المشرق والمغرب في حدود البلاد الاسلامية ، وعلى الأساس الاسلامي بشكل عام .

وهذا ما حدث في التاريخ طويلاً ، حيث كان الشرق يحكمه العباسيون والغرب – بمعنى الأندلس الاسلامية – يحكمه الأمويون . كما أن المغرب – بمعنى الشَّمال الافريقي – حكمه المهدي الافريقي محمد بن عبيد الله ، حتى انتقلت ذريته إلى مصر ، وأسسوا الدولة الفاطمية . وفي كلا الحالتين ، كانوا منفصلين عن خلافة الشرق العباسية، ومناوئين لها .

الأطروحة الثانية :

ما حدث في العصر الحديث ، وهو ما زلنا نعيشه منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن ... من وجود الدولتين الكبيرتين في العالم ، التي تمثل احداهما زعامة ما يسمى بالشرق او الكتلة الشرقية ، وتمثل الأخرى زعامة ما يسمى بالغرب .

وإذا نظرنا إلى جذور هاتين الدولتين ، وجدنا للفكرتين اللتين تقومان عليهما : الرأسمالية والشيوعية ، جذوراً تاريخية تمتد حوالي قرنين من الزمن . وعلى أي حال فهما معاً وليدتا المد الحضاري الأوروبي الحديث ، القائم على الأساس المادي المحض المناقض للأديان جميعا ً، كما هو معروف من بحوث العقائد الفكرية عادة . وعلى أي حال ، فقد جعل هذا الاختلاف باحدى هاتين الأطروحتين ، من علائم الظهور, بصفته ملفته للنظر من ناحية, ومشاركا ً في الأنحراف المنتج للتمحيص, كما عرفنا من ناحية أخرى.
____________________
(1) المصدر نفسه .

صفحة (459)

الأمر الخامس :

التنبؤ بثورة صاحب الزِّنْج.

فمن ذلك: ما أخرجه الصدوق في الإكمال(1) عن ابن عباس عن رسول الله عن الله عز وجل في بعض كلامه مع رسوله في المعراج , حيث جعل ذلك من علامات الظهور فقال :" وخراب البصرة على يد رجل من ذريتك يتبعه الزنوج".

وقال في الإرشاد (2) :" وقد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي عليه السلام" ,  وعدد عدداً كبيراً منها , إلى أن قال :" وخروج العبيد عن طاعة سادا تهم وقتلهم مواليهم".

وكل ذلك مما حدث بالفعل على يد صاحب الزنج , كما سبق أن عرفنا في تاريخ الغيبة الصغرى(3) , وكيف انه عاث في المجتمع المسلم فساداً وكلف الدولة العباسية كثيراً , وكبد البصرة وكثيراً من المدن الأعاجيب من القتل والنهب والتشريد.

اسمه علي بن محمد, زعم انه علوي . ولم يكن-على ما يذكر التاريخ-كذلك. فان نسبه في عبد قيس و أمه من بني أسد بن خزيمة (4). وعلى أي حال فرواية الصدوق تؤيد كونه علوياً. على حين نجد الإمام العسكري (ع) برواية ابن شهر اشوب (5) ينفي ذلك ويقول : "وصاحب الزنج ليس منا أهل البيت".وقد سبق أن بحثنا ذلك في التاريخ السابق (6).
_________________________________________
(1) أنظر اكمال الدين المخطوط .  (2) أنظر ص 337 .  (3) أنظر ص 71 وما بعدها .  (4) أنظر الكامل جـ 5 ص 346 .
(5) جـ 3 ص 529 .  (6) أنظر تاريخ الغيبة الصغرى ص 184 وما بعدها .

صفحة (460)

وعلى أي حال , فمن المحتمل , أن يكون الإمام العسكري (ع) نفيه عن أهل البيت عقائدياً و فكرياً . كابن نوح الذي لم يكن من أهله لأنه عمل غير صالح , وان ارتبط به
نسبياً .  والله العالم بحقائق الأمور .

الأمر السادس :

أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) بوقوع الحروب الصليبية .

وذلك: فيما أخرجه أبو داود و ابن ماجة في صحيحهما(1) بألفاظ متقاربة عن النبي (صلى الله عليه وسلم), واللفظ لأبي داود:" ستصالحون الروم صلحاً آمناً ,فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم , فتنصرون و تغنمون و تسلمون. ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول . فيرفع رجل من أهل النصرانية (2) الصليب . فيقول : غلب الصليب . فيغضب رجل من المسلمين (3)  فيدقه . فعند ذلك تعذر الروم وتجتمع للملحمة ".

وأضاف أبو داود (4) بسند آخر :"ويثور المسلمون إلى أسلحتهم , فيقتلون , فيكر الله تلك العصابة بالشهادة ."

وأما ابن ماجة (5) فأضاف إلى الحديث الأول بسند ثان : "فيأتون تحت ثمانين غاية , تحت كل غاية اثنا عشر ألفا".
وهذا الحديث الشريف مطابق كل المطابقة مع فترة التاريخ الإسلامي . وقد قلنا أن أول دليل على صحة الأخبار وقوع ما أخبر به . و هذا الحديث من أوضح مصاديق ذلك , لأن مضمونه واقع في التاريخ بالقطع و اليقين .

ولئن كانت الأخبار التي أسلفناها في هذا الفصل ، قد سجلت في كتب الأخبار بعد وقوع حوادثها .  فكان يمكن لبعض الماديين أن يطعنوا بصحة نسبتها إلى النبي (ص) ويزعموا أنها وضعت بعد حدوث الحادثة ... إلا أن هذا الحديث الشريف لا يحتمل فيه ذلك على الاطلاق .  لأنه صدر عن النبي في صدر الاسلام ، قبل الحروب الصليبية بمئات السنين ، وسجل الحديث في المصادر قبل حدوثها بأكثر من قرنين من الزمن .
_______________________________
(1) أبو داود جـ 2 ص 425 وابن ماجة ص 1369 .  (2) ابن ماجة : من أهل الصليب .
(3) ابن ماجة : فيقوم إليه .  (4) المصدر والصفحة .  (5) المصدر والصفحة .

صفحة (461)

فان أبا دواد توفي عام 275 (1) وابن ماجة توفي عام 273 (2). على حين سقطت القدس بيد الافرنج الصليبيين عام 492 (3) .

وهذه المصادر الحديثة متواترة عن أصحابها ،لا يحتمل الزيادة فيها فوق ما سجله مؤلفوها . وما زال أهل السنة من المسلمين يعتمدون عليها في الفقه والعقائد والتاريخ .

ومن هنا يمكن أن يعتبر ذلك من المعجزات التي تؤيد عقيدة الاسلام ، وصدق كلام النبي (ص) وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ... فضلاً عن إسنادها لفكرة وجود المهدي ، كما سبق أن أشرنا .

ونحن إذا لاحظنا المئة سنة أو الأكثر السابقة على الحروب الصليبية ، نجدها خالية عن الفتوحات الاسلامية تقريباً، وهادئة من جانب الروم تماماً ... ما عدا حركة الفتح تجاه الهند (4) .  وما عدا بعض المناوشات المتقطعة التي تحدث بين المسلمين والروم ، والتي تكون فيها المبادءة من الروم عادة ، كالذي حدث
عام 361 (5) وعام 421 (6).وفيما سوى ذلك يمكن القول أن السلام أو الهدنة ، كانت سارية المفعول بين العسكرين .

وهذا هو المصداق الواضح لقول النبي (ص) – في الحديث - : " ستصالحون الروم صلحاً آمناً " .  وليس المراد به ، ظاهراً ، المصالحة المتفق عليها بين المعسكرين .
__________________________________
(1) ابن خلكان جـ 2 ص 138 .  (2) المصدر ص 407 .  (3) الكامل جـ 8 ص 89 .
(4) انظر الفتوحات الاسلامية جـ 1 ص ...  (5) الكامل جـ 7 ص 44 . (6) المصدر ص 241 .

صفحة (462)

ومعه لا يكون هذا الصلح أو الهدنة ، قائماً على أسام الموادة للذين كفروا أو الرضوخ لهم ليكون محرماً في الاسلام .  وإنما السر في ذلك : هو أن جذوة الثورة الحرارية التي أوجدها النبي (ص) في المجتمع الاسلامي ، كما أشرنا إليها ، قد بدأت بالتنازل والخمول في تلك العصور .  فكان انحراف المسلمين وتناسيهم لتعاليم دينهم ، وتفضيلهم لمصالحهم الضيقة ، قد أوجب إعراضهم عن الجهاد وتغافلهم عن احكامه والاكتفاء بواقعهم المرير الذي كان في ذلك الحين يعاني من أشد الأزمات والانقسامات في داخل الدولة الاسلامية الممزقة .  وكانت الخلافة العباسية قد بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة .

وقد أدت هذه الهدنة المنحرفة مع الروم إلى تبادل بعض الثقة وحسن الظن بين المعسكرين .  مما أوجب لهما معاً أن لا يجدا مانعاً عن الاتفاق أحياناً ، بل الاشتراك في عمل المصداق الواضح لقول النبي (ص) : :فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم ، فتنصرون وتغنمون وتسلمون " .

ولعل أوضح الحوادث صراحة في ذلك ، ما حدث عام 375 على ما يحدثنا التاريخ (1) من أنه وقع اختلاف بين ملوك الروم مع بعضهم ، فاستنجد بعض منهم بملوك الإسلام ، وذلك البعض هو "ورد" الرومي .  وكان من أكابر رؤوسهم وقواد جيوشهم وعظماء بطارقتهم .  فطمع في الملك ولا قدرة له على قتال المتنازعين .  فكاتب أبا تغلب بن حمدان أمير حلب والموصل نيابة عن الخليفة ، واستنجد به وصاهره .  فاجابه ابن حمدان واستجاش بالمسلمين من الثغور فحصل له جيش ضخم ، فقصد قتال الروم بذلك الجيش .  فأخرجوا له جيشاً بعد جيش وهو يهزمهم ، فقوى جنانه فقصد القسطنطينية ، ومع تلك الجيوش "ورد" الرومي الطالب لتملك القسطنطينية .

فانظر كيف اتفق هذا الحمداني والرومي على حرب بقية الروم وانتصرا عليهم .  كما قال النبي (ص) . وإن لم يدم هذا النصر طويلاً ، فانه حين أراد فتح مدينة القسطنطينية ،جمعوا له جيوشاً كثيرة وقاتلوه قتالاً شديدا حتى انهزم (1) .

ومما يدلنا على تبادل بعض الثقة بين المعسكرين حوادث أخرى :

منها : ان وردوا الرومي المذكور حين انهزم عن القسطنطينية ، فكر بأن يستند إلى عضد الدولة بالعراق ، فكاتبه ووعده ببذل الطاعة .  فأجابه بجواب حسن ووعده بأن ينصره .
_________________________________
(1) الفتوحات الاسلامية جـ 1 ص 347 .  (2) المصدر والصفحة .

صفحة (463)