الوجه الثاني :

ان النظام المعطي في الحديث للايام فذ في بابه فالحديث الذي يخبرنا عن طول الزمان يقول : ان يوما واحدا من أيام الدجال طوله كطول سنة واليوم الذي بعده كطول شهر واليوم الذي بعده طوله كطول اسبوع .

وباقي الايام إلى الآخر كأيامنا اعتيادية .

والحديث الذي يخبرنا عن القصر ، يقول : ان السنة نفسها تصغر تدريجا ، فتصبح أولا كطول ستة أشهر ، ثم طول شهر ثم كطول الاسبوع ، وهكذا حتى تبقى الايام في النهاية كالشرارة الواحدة ، وتكون السنة عبارة عن 360 شرارة .  قد لا تعدو الساعة الواحدة الزمنية .

ومثل هذا النظام في الطول أو القصر ، لا يوجد في أي مناطق العالم كما هو معلوم .

فاذا عرفنا ان ايجاد هذا النظام الجديد في أيام الدجال ، بالمعجزة ، لا مبرر له ، بل يكون في مصلحة الدجال نفسه، عرفنا عدم صحة هذه الاخبار . ما لم تدخل في فهم منظم متكامل جديد ، سنذكره في الجهة الآتية انشاء الله تعالى.

الأمر الرابع :

قبل الدجال لمؤمن ثم احياؤه له .

فمن ذلك ما أخرجه مسلم (1) عن أبي سعيد الخدري ، قال : "حدثنا رسول الله (ص) حديثاً طويلاً عن الدجال ، فكان فيما حدثنا أن قال : يأتي وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة ، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة. فيخرج اليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس .  فيقول له : أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله (ص) حديثه " .
_________________________________
(1) جـ 8 ، ص 199 وانظر البخاري ، جـ 9 ، ص 76 بلفظ مقارب جداً .

صفحة (488)

فيقول الدجال : "أرأيتم ان قتلت هذا ثم أحييته ، أتشكون في الأمر .

فيقولون : لا .  قال : فيقلته ثم يحييه .  فيقول حين يحييه : والله ما كنت فيك أشد قط بصيرة مني الآن .  قال : فيريد الدجال أن يقتله ، فلا يسلط عليه " .

وفي حديث آخر لمسلم (1) عن رسول الله (ص) يقول فيه :"فان رآه المؤمن قال : يا أيها الناس ، هذا الدجال الذي ذكر رسول الله (ص) . قال : فيأمر الدجال به فيشج ، فيقول : خذوه وشجوه ، فيوسع بطنه وظهره ضرباً .  قال : فيقول : أو ما تؤمن بي ، فيقول أنت المسيح الكذاب .

"قال : فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرّق بين رجليه . قال : ثم يمشي الدجال بين القطعتين . ثم يقول له : قم . فيستوي قائماً .  قال : ثم يقول له أتؤمن بي . فيقول : ما ازددت فيك إلا بصيرة .

"ثم يقول : يا أيها الناس ، انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس .  قال : فيأخذه الدجال ليذبحه ، فُيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً ، فلا يستطيع إليه سبيلاً .

فيأخذ بيديه ورجليه ، فيقذف به ، فيحسب الناس إنما قذفه في النار ، وإنما اُلقي في الجنة . فقال رسول الله (ص): هذا أعظم شهادة عند رب العالمين " .

وهذا المضمون الذي يدل عليه ظاهر العبارة ، بأن تمكين الله تعالى للدجال من إقامة المعجزات ، يراد به فضحه وكشف كفره وغلطته للناس عن طريق صمود هذا المؤمن أمامه .

إلا أن هذا الدفاع غير صحيح ، فأنه إنما يصح على تقدير انحصار أسلوب فضحه وكشف دجله بذلك . إلا أنه من المعلوم عدم انحصاره بذلك . إذ يمكن أن تكشف عنه أفعاله ،عن طريق التمحيص الذي يمر به ، فيوجب فض نفسه بنفسه ويجري إلى حتفه بظلفه ، كالذي نرى من المبادئ المنحرفة اليوم ، ومن بعض الجبابرة السابقين ، الذين لم يخلفوا بعدهم إلا الكراهة ، كالحجاج وطغرل بك وتيمورلنك واضرابهم . ومعه لا حاجة إلى إقامة المعجزات من أجل كشفه .
____________________
(1) جـ 8 ، ص 200 .

صفحة (489)

ويدلنا على ذلك قول المؤمن – في نفس الرواية - : "يا أيها الناس ، انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس .  يبشرهم بأنه لن يقتل أحداً بعده .ومعنى ذلك أن قتله للناس معروف فيهم مشهور بينهم ، والتذمر من ظلمه عام في المجتمع. حاله في ذلك حال سعيد بن جبير الذي دعا حين أراد الحجاج قتله قائلاً :اللهم لا تسلطه على أحد بعدي". في قضيته المشهورة . ومعه فلا حاجة إلى قيام المعجزة لكشفه .

هذا بحسب ظاهر العبارة . وأما حمل هذه الأحاديث على الرمز ، فهو في غاية الاشكال .

الأمر الخامس : ضخامة الحمار الذي يركبه الدجال :

وذلك : فيما رواه الصدوق في اكمال الدين (1) عن رسول الله (ص) يقول فيه . " أنه يخرج على حمار ما بين أذنيه ميل ، يخرج ومعه جنة ونار ، وجبل من خبز ونهر من ماء ..." الخ .  الحديث .

ومن المعلوم أن ما بين أذني الحمار الاعتيادي لا يعدو عرض الأصبعين أو الثلاثة أصابع .  فإذا كان هذا المكان منه بمقدار ميل ، فيكف بضخامة أجزء جسده الأخرى .

وهذا – بلا شك – من فوارق الطبيعة المنسوبة إلى أحد المبطلين ، وقد برهنا على عدم امكان الأخذ به أو التصديق به ، بحسب القواعد الاسلامية العامة .

نعم ، يمكن حمله على ما سيأتي في الجهة الآتية : عطفاً على عدد من الأمور التي أخرجها الصدوق من صفات الدجال ، مما يمكن حمله على الرمز ، ويندرج في الفهم المتكامل العام ، على ما سنوضح إن شاء الله .

وأما أن معه جبلاً من خبز ونهراً من ماء ، فهو معارض ، بما أخرجه الصحيحان (2) عن المغيرة بن شعبة أنه قال: - واللفظ للبخاري - : "ما سأل أحد النبي (ص) عن الدجال ما سألته : وأنه قال لي : ما يضرك منه ؟ قلت : لأنهم يقولون أن معه جبل خبز ونهر ماء  . قال : هو أهون على الله من ذلك " .
______________________________
(1) أنظر النسخة المخطوطة .  (2) البخاري ، جـ9 ص 74 ، ومسلم ، جـ 8 ، ص 200 .

صفحة (490)

وسيأتي تفسير ذلك ، بشكل يرتفع به التعارض بين هذين الخبرين ، فانتظر .

الأمر السادس :

ما أخرجه الصحيحان (1) عن رسول الله (ص) أنه قال : "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الابل ببصرى " .

ومن الواضح أن ما يدل عليه ظاهر العبارة ، حادث معجز لا ربط له بإقامة الحجة ، فلا يكون الاخبار عنه قابلاً للتصديق .

إلا أن المظنون أنه يراد به ظهور المهدي (ع) نفسه .  فانه يظهر في أرض الحجاز ، كما دلت عليه الروايات ، كما سيأتي في التاريخ القادم .  وأما التعبير عنه بالنار فباعتبار كونه ناراً على المشركين والكافرين والمنحرفين . مع الاشارة إلى سعة ضوئه ونوره بمعنى عدله ولطفه ، بالمقدار الذي يفهمه الناس أيام عصر النبي (ص) من سعة الأرض ، وانه بين أرض الحجاز إلى بصرى الشام بون بعيد ومسافة مترامية .

والنص على أعناق الابل ، فيه دلالة على أن الابل متوجهة بوجهها وعنقها إلى مصدر النار والنور . ومعنى ذلك : ان المتوجّه إلى نور المهدي عليه السلام والمعتقد بهداه هو المستضيء بنوره والمهتدى بعدله وحكمه .

وأما كون الظهور من اشراط الساعة ، فواضح ، باعتبار كونه سابقاً عليها ، ولو بدهر طويل من الزمن .

الأمر السابع : النار التي تخرج من اليمن :

وذلك : فيما أخرجه مسلم (2) عن النبي (ص) في تعداد أشراط الساعة ، أنه قال : "وآخرها نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم " . وفي رواية أخرى : "ونار تخرج من قعر عدن ترحِّل الناس " . ونحوه ما رواه الشيخ في الغيبة (3) إلا أنه قال : " تسوق الناس إلى المحشر " .
__________________________________
(1) البخاري ، جـ 96 ، ص 73 ، ومسلم ، جـ 8 ، ص 180 . (2) جـ 8 ، ص 39 وكذلك الحديث الذي بعده .
(3) انظر ص 267 .

صفحة (491)

والظاهر أن هذا – على تقدير صحته – من أشراط الساعة المتأخرة عن الظهور ، والقريبة من يوم القيامة .  كما تشير إليه الرواية الأولى ، مصرحة أنها آخر الآيات . ومعه يخرج عن محل بحثنا ، فلا حاجة إلى تمحيصه .

الأمر الثامن : أنه سوف يحسر الفرات عن كنز من ذهب :

أخرج الصيحان (1) بسند يكاد يكون مشتركاً وبلفظ واحد من النبي (ص) أنه قال : "يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب ، فمن حفره فلا يأخذ منه شيئاً " .

وأخرها (2) بسند آخر يقول : عن جبل من ذهب . وأضاف مسلم (3) عليه :"يقتتل الناس عليه ، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون .ويقول كل رجل منهم : لعلي أكون أنا الذي أنجو "، ومثلها رواية أخرى أيضاً (4) . وأخرجت الصحاح الأخرى مثل ذلك ، غير أننا لا نروي عنها فيما أخرجاه .

ونحن إذا غضضنا النظر عن عدم إمكان إثبات مثل هذا المضمون ، بالتشدد السندي ، أمكننا أن نفهمه على عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى :

ما هو ظاهر العبارة من أن ماء الفرات ينكشف ويزول عن محله ، فيظهر تحته أكداس عظيمة من الذهب ، فيطمع فيه الناس ويقتتلون على أخذه . والتكليف الاسلامي الواجب يومئذ – كما تصرح به الرواية الأولى - :" أن لا يشارك الفرد في الطمع ولا في الحرب ، بل عليه أن ينصرف عن الأخذ من هذا الذهب تماماً " .

وهذه الأطروحة لو صحت ، فهي لا تدل على حصول المعجزة ، في انحسار الفرات ، بل لعله ينحسر تحت ظروف طبيعية معينة ، كتغيير مجراه ، فيرى الناس تحته ذهباً كثيراً لم يكونوا يعلمون بوجوده .

إلا أن حصول ذلك بعيد جداً بالوجدان ، لا يكاد يكون محتملاً أصلاً .
________________________________
(1) البخاري ، جـ 9 ، ص 73 ، ومسلم جـ 8 ، ص 175 .  (2) نفس المصدرين والصفحتين .
(3) جـ 8 ، ص 174 .  (4) المصدر ، ص 175 .

صفحة (492)

الأطروحة الثانية :

أن يفسر هذا الحديث بمقدار الخيراتالعظيمة التي ينتجها هذا النهر المبارك ... أما بحمله على الخيرات الزراعية التي تحصل على جانبيه على مر التاريخ ، وقد تحصل في بعض السنين أضعاف ما تحصل في سنوات أخرى .  وأما بحمل الخبر على أنه سيُستخرج من مياهه النفط المسمى بالذهب الأسود .  ولعل هذا أنسب بما يعطيه الحديث من أن الكنز كامن في جوف الفرات أو تحت مائه ، وأنه لا يمكن استخراجه إلا بإزالة الماء بشكل من الأشكال .

ومعه ، يحمل اقتتال الناس على التنافس الاستعماري على منطقة الفرات طمعاً بكنوزه من قبل الدول الكبرى المتعددة ، هذا التنافس الذي كلف الكثير من الأموال والنفوس . وأما بقاء الواحد بالمئة من المتحاربين ، فلا بد أنه يحمل على المبالغة في كثرة القتلى لا على التحديد .

الأطروحة الثالثة :

أن يحمل الفرات على معنى الحق أو الدعوة الالهية ، بقرينة قوله عز من قائل :

" وهو الذي مرج البحرين : هذا عذب فرات بالحق والاجاج بالباطل ، وجعل بينهما برزخاً وحجراً
 ومحجوراً " (1) . مع تفسير الفرات بالحق والاجاج بالباطل .
بقرينة ورودها في سياق الحديث عن الدعوة الالهية، فيما سبقها من الآيات . قال الله تعالى : " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا . فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيرا .وهو الذي مرج البحرين ... " الخ . ويحمل الحجر المحجور على الفاصل الذاتي البرهاني الذي لا يمكن خلطه بين الحق والباطل .

ويكون معنى انحسار الفرات عن الذهب ، اتضاح الحق بمقدار كبير وزيادة مخلصيه ومؤيديه ، في عصر الفتن والانحراف ... فيتصدى لهم جماعة من المنحرفين والكافرين ، فيقاتلهم المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم فيكثر القتلى حتى يمكن أن يقال : على وجه المبالغة : أنه لم يبق من الناس المتحاربين ، إلا واحداً من المئة .

ويحمل النهي عن الأخذ من الذهب على لزوم عدم الاعتداء على الحق والمشاركة في الحرب ضده .
_____________________________
(1) الفرقان : 25/53 .

صفحة (493)