النقطة الثالثة:

ما دل على اقامة المعجزات أكثر مما يقتضيه قانون المعجزات .

واوضح ذلك واصرحه ما دل على قيام المعجزات من قبل انصار الباطل والمنحرفين عن الحق .  وذلك أدهى وأمر من مجرد قيام المعجزة بلا موجب ، فان فيه تأييدا للباطل واغراء بالجهل يستحيل صدوره عن الله عز وجل .

فان قال قائل : ان مبرر مشروعية ذلك هو ان سبب التمحيص منقسم إلى قسمين : طبيقي واعجازي .  ولعمري ان السبب الاعجازي أشد تمحيصا وآكد نتيجة . فان الايمان بكذب من قامت المعجزة على يديه من أصعب الاشياء.

قلنا : كلا ، فان هذا مما لا يستقيم بالبرهان . فان المحيص الموجب للتربية الحقيقية ، ليس هو الا ما كان عن سبب طبيعي وعن عيش حياتي طويل .

واما التمحيص الاعجازي ، فقد يكون ممكنا لو توقف عليه اتمام الحجة . يندرج في ذلك كل معجزات الانبياء فانه –لامحالة- محك للتمحيص والاختبار اذ يرى من يؤمن بنتائجها ممن يكفر بها .

واما المعجزة الموهمة بالباطل و المغررة للجاهل ، فغير ممكنة الصدورعن الله عز و جل بالبرهان . والايمان بكذب من قامت المعجزة على يدبه غير ممكن الا على اساس الانحراف . وذلك ليس الا للبرهان القائم على ان الله تعالى لا يظهر المعجزة على يد  الكاذب ، كما برهن عليه في محله من العقائد الاسلامية .

فكيف يكون الباطل المستحيل طريقا للتمحيص و اقامة الحق ، و تربية المخلصين . و لعمري ان ذلك قائم على الفهم السيء لقوانين الاسلام .

اذن فلا بد من استعراض ما ورد من الروايات المتنبئة بحوادث من هذا القبيل لاجل التخلص عنها في الجهة الاتية . ولابد ان نلاحظ سلفا ان ما هو الميزان في الرفض و الاخذ بالرواية انما هو مقصودها الواقعي لا عبارتها الرمزية.

وسنذكر الان عددا مما خالف قانون المعجزات ، فما كان صريحا في ذلك رفضناه . و ما كان رمزيا باعتبار الفهم المتكامل للروايات الذي سوف ياتي في الجهة الاتية ، امكن الاخذ به على تقدير امكان اثباته بالتشدد السندي .

وبمكن تعداد المهم من ذلك ضمن الامور التالية :

الامر الاول :

طول عمر الدجال ، على اساس الطروحة الكلاسيكية المشهورة عنه .

حيث دل ما اخرجه مسلم في صحيحه من الروايات و غيره ، على ان الدجال هو ابن صائد ، وانه لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من طلبه شخصيا منه . بل هو ادعى الرسالة ، وحاول عمر بن الخطاب قتله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان يكنه فلن تسلط عليه ، وان لم يكنه فلا خير لك في قتله "(1) وفي رواية اخرى :" ان يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله "(2) وفي رواية ثالثة : "فان يكن الذي تخاف فلـن تستطيع قتـله "(3).

والمراد : انه لو كان هو الدجال ، فهو غير قابل للقتل اساسا ، لان الله تعالى قد قدر له طول عمره . وهذا النص ، بالرغم  من انه لا يعطي الجزم بان ابن صائد هو الدجال بالتعيين . ولكنه يدل بوضوح بان لو كان هو الدجال ، فهو ممن لابد من بقائه إلى حين قيامه وظهوره . وبما يؤيد ذلك ما أخرجه مسلم أيضا (4) عن رسول الله (ص) انه قال: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال " . لو فهمنا منه طول العمر .

ولا نريد ان نناقش في ان ابن صائد هو الدجال ام لا .فقد طعن في ذلك محمد بن يوسف الكنجي في كتابه البيان(5). وانكره ابن صائد نفسه ، فيما أخرجه مسلم عنه (6) قائلا : "يزعمون اني الدجال ، ألست سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، انه لا يولد له قال الراوي : قلت: بلى قال : فقد ولد لي : اوليس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يدخل المدينة ولا مكة . قلت : بلى قال :" فقد ولدت بالمدينة و ها انا ذا اريد مكة".
_____________________________________
(1) صحيح مسلم ، جـ 8 ، ص 192 . (2) المصدر ، ص 189 .  (3) المصدر ، ص 190 .
(4) المصدر ، ص 207 . (5) ص 108 . (6) جـ 8 ، ص 190 .

صفحة (482)

و مما يدل على طول عمر الدجال : حديث الجساسة ، الذي اخرجه عدد من الصحاح منهم مسلم(1) و فيه يقول : "الرجال انا المسيح ، واني اوشك ان يؤذن لي في الخروج فاسير في الارض فلا ادع قرية إلا هبطتها في اربعين ليلة غير مكة و طيبة فهما محرمتان علي كلتاهما ". فاذا علمنا انه لم يؤذن له بالخروج من حين عصر تميم الداري الى الان ، وهو ما يزيد على الالف عام .. عرفنا كيف يدل هذا الحديث على طول عمره .

ولعمري ان من العجب ان اخواننااهل السنة و الجماعة ، يؤمنون به و بالمصادر الحديثة التي دلت عليه . ولكنهم يستبعدون غيبة المهدي (ع) وطول عمره . مع قلة الروايات عن الدجال وطول عمره و تكاثرها عن المهدي (ع) لهداية العالم و تنفيذ الغرض الالهي الكبير ، وليس الدجال كذلك .

فالجماعة يرون الدجال شخصا طويل العمر ، غائبا منعزلا في جزيرة في البحر ، كما يدل  عليه حديث الجساسة . واما المهدي (ع) فشخص يولد في زمانه . على حين ان الذي ينبغي ان يقال بكونه هو الحق عكس ذلك –لو مشينا على الاطروحة اللكلاسيكية لفهم الدجال- وهو ان المهدي طويل العمر و غائب عن الانظار بالشكل الذي ذكرناه في القسم الاول من هذا التاريخ و اما الدجال فشخص يولد في حينه .

فان المهدي (ع) مذخور لثورة الحق و تطبيق الغرض الالهي الكبير . فهل بالامكان ان يقال : ان الدجال مذخور لثورة الباطل و اغراء الناس بالجهل ؟ وهل يصح ان يكون هذا غرضا الهيا ، بشكل من الاشكال ؟؟
_____________________
(1) جـ 8 ، ص 205

صفحة (483)

وانما الصحيح ، انطلاقا من هذه الاطروحة ، كون الدجال شخصا اعتياديا منحرفا او كافرا يوفق لانتشار حكمه وسلطته على رقعة كبيرة من الارض .

فيكون كل من اتبعه على الباطل ، وكل من خالفه على الحق .

واما على الاطروحة المقابلة ، وهي التي تنفي ان يكون الدجال شخصيا بذاته وانما هو عبارة رمزية عن التيارات الكافرة والمنحرفة فكريا وسياسيا واقتصاديا .. فهذا ما سنعرضه بشكل تفصيلي في الجهة الآتية .  وقد يكون من الدليل عليها ما ورد من طول عمر الدجال على أي حال .

الامر الثاني :

ما ورد من منع الدجال دخول الحرمين : مكة والمدينة ، بطريق اعجازي .

يدل عليه حديث الجساسة نفسه (1) اذ يقول فيه الدجال : "فلا أدع قرية الا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما . كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده سيف صِلتاً يصدني عنها" .

وهذا الحديث غير صالح للاثبات التاريخي ، بعد التشدد السندي الذي اتخذناه .
وهو لا يوضح لماذا يحرم على الدجال دخول مكة والمدينة ، ولماذا يمنع عنهما منها اعجازيا . فان كلا الامرين لا يصحان .

فان هذه الحرمة لا يخلو حالها من احد شكلين :

الشكل الاول :

ان تكون حرمة تكوينية قهرية ، يخططها الله تعالى من أجل حفظ احترام البلدين المقدسين من ان يعبث الدجال فيهما فسادا .
وهذه الحرمة غير ثابتة لهذين البلدين جزما ، والا لما أمكن احراق الكعبة في عهد يزيد بن معاوية الاموي (2) ،
___________________________________
(1) المصدر والصفحة . (2) الكامل ، جـ 3 ، ص 354 .

صفحة (484)

ولا استباحة المدينة ثلاثة ايام في وقعه الحرة (1) ولا هجوم القرامطة على الكعبة وسفكهم الدماء في المسجد الحرام وخلعهم الحجر الأسود ونقله إلى هجر (2) .

واذا لم تكن مكة والمدينة محصنتين تحصينا إلهياً قهرياً ضد هذه الحوادث وامثالها ، فلا معنى لمنع الدجال عنهما بهذا الشكل على أي حال .

الشكل الثاني :

ان تكون الحرمة تكليفية ، تشبه في فكرتها حرمة القتل والسرقة ، مع امكان الفعل بحسب أصله .  وتنشأ هذه الحرمة من أحد سببين محتملين ، ان تم أحدهما فهو ، والا كانت منتفية أيضا .

السبب الاول :

ان الدجال شخص كافر نجس ، كالكلب والخنزير في نظر الاسلام .

فيحرم عليه دخول الحرمين المقدسين .

ولا نريد ان نناقش في كفر الدجال ونجاسته ، الا ان حرمة دخوله ، على هذا التقرير ، من تكليف المسلمين ، فيجب عليهم دفعه عنها وصده عن دخولها ان استطاعوا .  أما هو فلا يشعر بهذه الحرمة ، لانه كافر ، وهو خلاف ظاهر الحديث .

السبب الثاني :

ان يكون سبب الحرمة تحصين اهل مكة والمدينة من الغواية والانحراف الذي يعطيه الدجال .

وهذه الحرمة صحيحة ، وثابتة لمعطي الانحراف واخذه .  الا انها غير مختصة باهل مكة ، بل شاملة لكل الناس .  على انها قد شرعت لاجل وضع الناس تحت التمحيص ، ومن حيث اطاعة هذا التشريع وعصيانه ، بما في ذلك اهل الحرمين والدجال نفسه ، فلا معنى لان يكون التحصين مكتسبا اهمية وقوة فوق درجة التمحيص الالهي .  ولئن كان الحرمان مقدسين في الاسلام ، فان ساكنيهما كسائر الناس ، لم يثبت لهما أفضلية عن الآخرين .
__________________________________
(1) المصدر ، ص 310 وما بعدها .  (2) المصدر ، ص 204 وأنظر الغيبة الصغرى ص 360 .

صفحة (485)

ومعه فالصحيح ، ان الله تعالى اذا اراد منع الدجال من دخول مكة والمدينة ، بشكل لا يزيد المخطط العام للدعوة الالهية ، فانه يوجد أحد امرين :

الامر الاول :

ان يصرف الله تعالى ذهن الدجال وهمته اساسا عن غزو هاتين المدينتين أو دخولهما ، بشكل لا يستلزم الجبر ولا الاعجاز ، فمثلا يمكن أن تصبح ظروف الدجال بشكل يدرك بوضوح عدم مطابقة دخول المدينة ومكة مع مصالحة .

الامر الثاني :

ان يمنع الدجال من دخولهما من قبل المسلمين الصالحين ، عن طريق الحرب أو غيرها .

هذا كله طبقا للفهم الكلاسيكي للدجال .

الامر الثالث :

اختلاف الزمان عما هو عليه الآن .

فمن ذلك : ما اخرجه مسلم (1) عن رسول الله (ص) وقد تحدث عن أيام الدجال .قال الراوي : "قلنا يا رسول الله، وما لبثه في الأرض . قال : اربعون يوما ، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ، وسائر ايامه كايامكم . قلنا يا رسول الله ، فذلك اليوم الذي كالسنة ، اتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا .  اقدروا له قدره " .

وكما روى طول الزمان روى قصره أيضا .
أخرج البخاري (2) عن النبي (ص) انه قال : "يتقارب الزمان .." الخ .
___________________________________
(1) جـ 8 ص 197 . (2) جـ 9 ، ص 61 .

صفحة (486)

وأخرج ابن ماجة (1) : قال رسول الله (ص) – وهو يتحدث عن الدجال - : "وان أيامه أربعون سنة ، كنصف سنة، والسنة كالشهر ، والسنة كالجمعة ، وآخر أيامه كالشررة ، يصبح أحدكم على باب المدينة ، فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي .فقيل له : يا رسول الله .  كيف نصلي في تلك الايام القصار .  قال : تقدرون فيها الصلاة ، كما تقدرونها في هذه الايام الطوال ، ثم صلوا " .

ويكفينا في بطلان الحديثين ، تنافيهما وتعارضهما في المدلول ، من حيث دلالة أحدهما على طول الزمن والآخر على قصره ، في نفس الوقت ، وهو عصر الدجال .

فان قال قائل : ليس الطول والقصر ،على وجه الحقيقة ، بل يراد به الكناية عن الجو النفسي الذي يعيشه المسلمون يومئذ . فانه من المحسوس وجدانا مع الأُنس والفرح ينقضي الزمان بسرعة ، فكأنه قد قصر ، ومع الهم والكمد ينقضي ببطء فكأنه قد طال .

قلنا : ان هذا التفسير يبطل الفهم الاعجازي للحديث ، ويجعل المسألة نفسية طبيعية .. لا انه لا يحل التعارض ، لتهافت الخبرين من حيث الدلالة على الجو النفسي يومئذ . والمفروض هو الحديث عن الجو العام لدعم المسلمين، فهل هو جو الفرح لكي يكون الزمن قصيرا كما دل عليه أحد الخبرين ، أو هو الحزن والكمد ، لكي يكون الزمن طويلا ، كما دل عليه الخبر الآخر .  اذن فالتعارض لا زال موجودا .

فان قال قائل : لعل حركة الدجال  تحدث في بلاد السويد والنرويج التي يختلف فيها نظام الايام عن نظامنا .

قلنا : هذا لا يمكن حمل الحديث عليه لوجهين :

الوجه الاول :

ان المفروض في الفهم الاعتيادي للدجال ، هو خروجه في بلاد الاسلام ،  وما أخرجه ابن ماجة صريح في أن المسألة لا تعدو الحجاز والعراق والشام . فراجع ، في حين ان البلاد الاسكندنافية ليست في بلاد الاسلام .
_________________________
(1) جـ 2 ، ص 1362 .

صفحة (487)