الجهة الخامسة

في تعداد مفردات العلامات، ومحاولة فهمها فهماً منظماً شاملاً

ويقع الكلام فيها ضمن ناحيتين أساستين، باعتبار تعداد مفردات العلامات المتبقية بعد الجرد السابق ، من ناحية ، ومحاولة إعطاء المفهوم العام المنظم المتكامل عن مجموعة العلامات أو عن أكثرها ، بمقدار الإمكان ، من ناحية ثانية.

ولا بد أن نبدأ بالتعداد أولاً ، لنحاول أن نفهم كل علامة مروية فهماً مستقلاً منفرداً ، لنرى في الناحية الثانية الآتية ارتباطها المجموعي مع العلامات الأخرى.

الناحية الأولى:

في تعداد مفردات العلامات ، غير ما سبق أن أوردنا فيه الروايات.

ونحن إذا حاولنا هذا التعداد ، لا ينبغي أن نتوخى الاستيعاب ، فإنه يوجب التطويل بلا طائل ، وإنما نذكر العلامات الرئيسية ، ونحاول تحديد مفهومها وتوقيتها وخصائصها الرئيسية .  ونورد هذه العلامات ضمن عدة نقاط :

النقطة الأولى : خروج الرايات السود من خراسان :

وقد سبق أن تكلمنا عن مفهومها وحددناه بثورة أبي مسلم الخراساني . فلا بد أن نورد هنا بعض ما يدل عليها من الروايات ، كما وعدنا ، وبعضها ما يحتمل فيه العارضة مع هذا المفهوم على ما سنسمع .

فمن ذلك : ما أخرجه الترمذي (1) عن رسول الله (ص) أنه قال : " تخرج من خراسان رايات سود ، فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء "  .  قال الترمذي : "هذا حديث غريب حسن " .

وروى النعماني في الغيبة (2) عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال : انتظروا الفرج من ثلاث .  فقيل يا أمير المؤمنين ، وما هن ؟  فقال : ... والرايات السود من خراسان .
__________________________________
(1) جـ  3 ، ص 362 . (2) ص 133 .

صفحة (502)

وعد في الارشاد (1) من العلامات التي وردت بها الآثار : "إقبال رايات سود من خراسان " .
وروى الشيخ في الغيبة (2) عن أبي جعفر (ع) قال : "تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان إلى الكوفة .  فإذا ظهر المهدي (ع) بعث إليه بالبيعة ".

وهذا الخبر الأخير دال على قرب ظهور هذه الرايات من ظهور المهدي (ع) .  إلا أنه بمفرده غير قابل للاثبات التاريخي ، مع التشدد السندي الذي سرنا عليه ، نعم ، لو فرض صحة الخبر لدل على عدم كون هذه الرايات هي رايات أبي مسلم الخراساني .

النقطة الثانية : قبل النفس الزكية :

وقد اختصت بذلك المصادر الامامية أو كادت ، ولم يذكر في صحاح العامة ما يدل على ذلك .

فمن ذلك : ما رواه النعماني (3) عن أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال : "للقائم خمس علامات ... وعد منها : قتل النفس الزكية " .

وأخرج النعماني أيضاً (4) والمفيد في الارشاد (5) والشيخ في الغيبة (6) عنه عليه السلام ، في تعداد أمور محتومة.  منها : قتل النفس الزكية .

وروى النعماني أيضاً (7) عنه عليه السلام ، قال الراوي :
"قلت له : ما من علاقة بين يدي هذا الأمر ؟ فقال : بلى " .
"قلت : وما هي ؟ قال : هلاك العباسي ... وقتل النفس الزكية " .
_________________________________
(1) ص 336 . (2) ص 274 . (3) انظر غيبة النعماني ، ص 133 . (4) المصدر ، ص 134 .
(5) المصدر ، ص 134 . (6) ص 266 .  (7) الغيبة ، ص 139 .

صفحة (503)

وأخرج المفيد في الارشاد (1) عن أبي جعفر الباقر (1) والشيخ في الغيبة (2) والصدوق في إكمال الدين (3) عن أبي عبد الله الصادق (ع) بلفظ متقارب – واللفظ للمفيد – أنه قال : "ليس بين قيام القائم عليه السلام وقتل النفس الزكية أكثر من خمس عشرة ليلة " .

وعد في الارشاد (4) مما جاءت به الآثار من العلامات لزمان قيام القائم ، قال : "وقتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين .  وذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام " .

وروى الصدوق أيضاً (5)عن الامام الصادق (ع) ، قال:"خمس قبل قيام القائم .. وعد منها قتل النفس الزكية". وعنه (ع) أيضاً : "قبل قيام القائم خمس علامات محتومات ، وعد منها : قتل النفس الزكية ". في رواية أخرى في تعداد أمور محتومة عن الامام الباقر (ع) قال : وقتل النفس الزكية من المحتوم " .

إلى غير ذلك من الأخبار .
ولا بد أن نتكلم عن النفس الزكية ، ضمن عدة أمور :

الأمر الأول :

يراد بالنفس الزكية : النفس الكاملة الطيبة ، من زكا إذا نما وطاب .  ويراد بالنمو في منطق الاسلام التكامل بالعلم والاخلاص والتضحية .
______________________________
(1) ص 339 .  (2) ص 271 . (3) انظر المخطوط .
(4) ص 336 . (5) انظر هذا الحديث وما يليه من الاحاديث في النسخة المخطوطة من اكمال الدين .

صفحة (504)

ويمكن أن يراد – بالدقة – من الكمال أحد معنيين :

المعنى الأول:

ما هو المطلوب اسلامياً من الفرد المسلم من قوة الايمان والارادة  واندفاع الاخلص والتضحية . ومعه يكون المراد بالنفس الزكية مع غض النظر عما يأتي في الأمر الثالث – شخصاً من المخلصين الممحصين في الغيبة الكبرى ، وأنه يقتل نتيجة للفتن والانحراف.

المعنى الثاني :

أن يكون المراد من الكمال – في هذا الصدد-: البراءة من القتل. فيكون مساوياً لقوله عز وجل :)أقتلت نفسا زكية بغير نفس،لقد جئت شيئا نكرا) (1).

ولعل التعبير بالنفس الزكية بالقرآن يوحي تماما بأن المراد من الأخبار نفس ذاك  المعنى، وهو البراءة من القتل.

غير أن الذي يقرب المعنى الأول ، ويكون قرينة عليه ، هو أن المنساق والمتبادر  من كل واحدة من هذه الروايات، إن المراد بالنفس الزكية رجل معين يكتسب مقتله أهميةخاصة. ولا شك أن هذا منسجم مع المعنى الأول. لأن مقتل الرجل المخلص والممحص ، لا يكون – عادة – إلا على صعيد عالٍ من مستويات العمل الإسلامي ، فيكون ملفتا للنظر اجتماعياً ، ومثيراً أسفاً إسلاميا عميقاً . بخلافه على المعنى الثاني ،إذ مجرد كون المقتول بريئا من القتل لا يكسبه أهمية خاصة ولا يكون مقتله ملفتاً للنظر ، على حين ينبغي أن تكون العلامة مما يعرف – عادة – بين الناس ،  وإلا سقطت فائدة دلالتها على الظهور .

على انه هذا المعنى الثاني ، يمكن حمله على معنى كلي واسع. ويكون المراد: أن من آثارعصر الفتن والانحراف أن يقتل عدد من الناس بدون ذنب. وهذا ما حدث فعلاً على أعداد ضخمة من البشر على مر التاريخ.

فإذا كان المعنى الأول منسجما مع ما هو المنساق والمفهوم من هذه الروايات، دون المعنى الثاني ، تعين الحمل عليه. ولا تكون الآية قرينة عليه. لإمكان أن يكون المراد من النفس الزكية من الآية المعنى أيضاً، أو أن يختلف معنى الآية عن معنى الرواية.
_____________________________
(1) الكهف: 18/74 .

صفحة (505)

الأمر الثاني:

هل تقتل النفس الزكية بين الركن والمقام.

لا شك أن المركوزة في الأذهان والمتناقل على الألسن هو ذلك. حتى اعتبره صاحب " منتخب الاثرة"من المسلَّمات فقال (1): وقتل النفس الزكية: قتل محمد بن الحسن الذي  يقتل بين الركن والمقام.

إلا أن ذلك لا يكاد يثبت بعد التشدد السندي الذي التزمناه، فقد أورد صاحب البحار حديثين  لا يكادان يثبتان بعد هذا التشدد. وأما الارتكاز الذهني فلا يكفي للاثبات التاريخي أيضاً.  فان حدث ذلك في مستقبل الزمان، كان دليل لنا عليه. مضافا إلى معارضته، بما رواه الشيخ المفيد في الارشاد من حدوث: قتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين(2) وقد سمناه. وهذا الخبر وإن لم يكن له قابلية الاثبات ، إلا أننه ليس بأسوأ حالاً من خبر مقتله بين الركن والمقام، فيصلح لمعارضته، ومع المعارضة يتساقطان معا عن إمكان الاثبات التاريخي. وأما ما ذكره في الارشاد (3) أيضاً من حدوث: ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، كما سمعنا.  فهو لا يدل على المقصود.  إذ قد لا يكون هذا الرجل الهاشمي ذكياً ممحصاً.

مضافاً إلى ضعف الخر وعدم كفايته للاثبات التاريخي.

الأمر الثالث:

إنطباق هذه الروايات على محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب ، أبي عد الله ، الملقب بالنفس الزكية ،الثئر في زمن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي.

ولعمري أن هنالك ما يدل على هذا الانطباق ، فلو استطعنا أن ننفي القرائن الدالة على نفيه تعين الالتزام بإثباته وأن النفس الزكية المقصودة، هو هذا الثائر العلوي.
________________________________
(1) انظر المصدر،ص 454 (2) ص336. (3) نفس الصفحة .

صفحة (506)

ومن هنا يقع الكلام على مستويين:

المستوى الأول:

في القرائن الدالة على نفي هذا الانطباق. وإن النفس الزكية الموعودة هو غير هذا الثائر العلوي.
وهي عدة قرائن محتملة .

القرينة الأولى :

إن النفس الزكية لا بد أن تقتل بين الركن والمقام. وهذا الثائر العلوي لم يقتل هتاك.
وهذا على تقدير ثبوته قرينة كافية ، على نفي هذا الانطباق، إلا أنه مما لم يثت كما أسلفنا.

القرينة الثانية :

تأخر اخبار الأئمة عليهم السلام بهذه العلامة من علامات  الظهور عن مقتل هذا الثائر العلوي. مما يدل على أن مقتل النفس الزكية يبقى متوقعا ومنتظراً بع مقتل النفس الزكية: الثائر.  وهذ على تقدير ثبوته قرينة كافية أيضاً على نفي الانطباق.  إلا أنه لم يثبت.

فان كل ما وجدناه من الروايات الدالة على هذه العلامة ، مروية عن الامامين الباقر والصادق عليهما السلام . أما الامم الاقر(ع) فعصره سابق على عصر العلوي الثائر. وأما الامام الصادق (ع) فهو معاصر للمنصور العباسي وللنفس الزكية الثائر. وكان عليه السلام ينفي لعد الله بن الحسن – والد النفس الزكية – نجاح  ثورته وثورة ولديه، ويقطع أمله في نيل الخلافة ، ويقول له : " إن هذا الأمر ، والله ليس إليك ولا إلى انيك ، وإنما هو لهذا – يعني السفاح – ثم هذا – يعني  المنصور – ثم لوالده من بعده ، لا يزال فيهم حتى يؤمروا الصبيان ويشاوروا النساء.

" فقال عبد الله : والله يا جعفر ، ما أطلعك الله على غيبة، وما قلت هذا إلا حسداً لابني. فقال: لا والله ، ما حسدت ابنك.وان هذا – يعني المنصور – يقتله على أحجار الزيت ،ثم يقتل أخا بعده بالطفوف ،وقوائم فرسه في الماء"(1)
وعلى أي حال ، فليس هناك أي دليل على صدور مثل هذه الروايات بعد هذا الثائر العلوي ان لم يكن المظنون خلافه.
____________________________
(1) مقاتل الطيبين، ص 189

صفحة (507)

القرينة الثالثة :

إن هذا الاثائر العلوي لم يكن زكيا ممحصاً ، إذ ، فلا بد ان نتوقع مقتل مخلص  ممحص بعد ذلك ، غير هذا الثائر.  والدليل على انحرافه ادعاؤه المهدوية ، فيما يروي عنه في مقاتل الطالبيين.

وقد قدم أبوه على أنه هو المهدي، بعد زوال الدولة الأموية وقبل تأسيس الدولة العباسية ، قائلاً في خطبة  له في بني هاشم (1) " وقد علمتم أنا لم نزل نسمع  أن هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً رج الأمر من أيديهم فقد قتلوا صاحبهم – يعني الوليد بن يزيد – فهلم نبايع محمداً ، فقد علمتم أنه المهدي.

فقال له الامام الصادق (ع) : "أنها والله ، ما هي اليك ولا إلى بنيك، ولكنها لهؤلاء ، وان ابنيك لمقتولان "(2) .

وكان محمد بن عبد الله بن الحسن، منذ كان صبياً ،يتوارى ويراسل الناس بالدعوة إلى نفسه،ويسمى بالمهدي (3).

ولسنا نريد أن ندخل في مناقشة ذلك ، ويكفينا اليقين بأنه قتل قبل أ، يملك العالم ، وهودليل كاف على كذب المدعي، كما قلنا  ولكن المقصود أنه على هذا يكون زكيً ممحصاً غير هذا الثائر.  والالتزام بانحراف هذا الثائر ، لو صح ذا النقل التاريخي ، أمر لا مناص منه . ولكنه لا ينفي كونه هو المقصود بالتنبؤ ، في علامات الظهور.

وأما تسنيته بالنفس الزكية ، فقد سماه بذلك من كان يعتقد بكونه زكياً ، حتى اشتهر به ، وقد استعمل لقبه في الروايات طبقا لشهرته.
_________________________
(1) المصدر، ص188. (2) المصدر، ص189 (3) المصدر،ص 177

صفحة (508)