الكذب موضوعاً


تساءلنا في أول هذا البحث: ما هو الكذب وأجبنا عليه. والآن لنا أن نتساءل: ما هو الكذب المحرم أو ما الذي يكون موضوعاً لحرمة الكذب؟ هل هو كل الأقسام السابقة التي عرفناها له أو بعضها دون بعض؟
لا شك انه بكل أقسامه مرجوح ورديء أخلاقياً، إلا أن حرمته الشرعية، تتوقف على ان يكون الإطلاق اللغوي عليه حقيقة لا مجازاً، وان يكون الفهم له عرفياً لا دقيقاً معمقاً، مضافاً إلى كونه مما لم يستثن من أدلة التحريم.
ومعه فما اندرج من أقسامه تحت الحرمة، فهو المطلوب. وإلا كان حكمه الشرعي مندرجاً تحت الكراهة لا محالة.
وقد عرفنا فيما سبق ان بعض استعمالات الكذب يمكن ان تكون مجازية، ومثلنا بقوله تعالى:  ( ) حيث نسبت عدم الكذب إليها من دون وجود[لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ] دلالة، والكذب متوقف على وجود الدلالة كما عرفنا، بأي مستوى من مستوياتها، فاستعماله بدون الدلالة مجاز.
والمجاز صحيح في اللغة، إلا انه لا يندرج تحت الحكم الشرعي بالحرمة، بل لابد من توخي الفرد الحقيقي للكذب موضوعاً لها. ولا يبعد ان تكون كل الأقسام الأخرى التي عرفناها للكذب حقيقة لغة.
ولكن ليس هذا فقط، بل لابد ان يكون الفهم العرفي موافقاً على مصداقيته وانطباقه كما اشرنا، فلو كان شيء ما كذباً حقيقة وليس كذباً عرفاً لم يندرج في الحرمة، بصفته كذباً. وان كان قد يكون مندرجاً في الحرمة بأسباب أخرى، اعني صفته فسقاً أو كفراً أو غير ذلك، وسيأتي إيضاحه.
وأوضح ما يخرج أو يتم استثناؤه بذلك أمور:
الأمر الأول: المفارقة بين الفعل وأمر آخر كالاعتقاد أو الهدف. فإننا قلنا وأوضحنا انه من أقسام الكذب. إلا انه ليس منها عرفاً فلا يكون موضوعاً للحرمة من هذه الجهة.
واعني بالفعل السلوك الحياتي الاعتيادي، لا الفعل الذي يكون له دلالة لغوية كالإشارة. فانه مما يصدق عليه الكذب حقيقة وعرفاً فيكون محرماً جزماً.
الأمر الثاني: خلف الوعد، كما لو قلت: سأفعل كذا ولم تفعل. فانه لا يكون كذباً عرفاً. وأوضح تقريب لذلك هو ان مثل هذا القول يمكنك بالاختيار ان تصدقه وان تكذبه. أي ان تجعله صادقاً بتنفيذك إياه، أو تجعله كاذباً بتركك له. ومثل هذا الملاك لا يعتبر عرفاً ملاكاً كافياً للكذب.
وهذا غير الإخبار عن المستقبل، كما لو قلت: سيحدث كذا، ولم يحدث. فان هذا هو التنبؤ، وهو قابل للاتصاف بالكذب.
وقد أفتى الفقهاء جميعاً بعدم حرمة خلف الوعد، وان قالوا بكراهته الشديدة. ما لم تحدث مصالح أخرى تقتضي حرمته. كأدائه إلى كبيرة من الكبائر أو بعض المفاسد الاجتماعية.
الأمر الثالث: المفارقة بين القول إِنَّكَ لَرَسُولُ]أو الاعتقاد مع كونه موافقاً مع الواقع كقوله المنافقين:   ( ) فانه ليس كذباً، من حيث المطابقة مع الواقع، فلا يكون حراماً ولا[اللَّهِ  موجباً لاستحقاق العقاب. وإنما يعاقبون من اجل نفاقهم وعدم اعتقادهم بصدق رسول الإسلام صلى الله عليه وآله.
نعم، يمكن ان يكون المعتقد عالماً بنفسه كاذباً. كما لو كان يعتقد بحدوث شيء وينفيه، في حين انه لم يحدث فيكون قوله صادقاً كقول المنافقين في الآية الكريمة. لمطابقته للواقع، ولكنه عالم بكذبه. فيكون عمله (تجريّاً) اصطلاحاً يعني: ان يعمل الفرد شيئاً علم بحرمته وليس بمحرم. والتجري، وان لم يكن محرماً واقعاً، إلا انه مستحق للعقوبة على أي حال.
وأما لو حصل عكس ذلك، كما لو كان الفرد يعتقد بحصول الشيء واخبر عن حصوله، كما يعتقد، ولم يكن حاصلا.
فهذا كذب حقيقة وعرفاً، لعدم مطابقته مع الواقع. ولكن الفرد لا يعاقب عليه. لكونه معذوراً عنه، لان العلم (حجة) شرعية، كافية في إثبات صدقه. فقد كان يرى كونه صادقاً بحجة شرعية، وهذا يكفي في درء العقاب عنه.
الأمر الرابع: مما يخرج عن موضوع الكذب: الكذب بالأمور أو بالأساليب الإنشائية. كما سبق ان اشرنا، وقد مثلنا له: بقوله اعنّي الدال على انه ضعيف. أو اعطني الدال على انه فقير، وهكذا. فان مثل هذه الدلالات الالتزامية ليست كذباً عرفاً وان كانت كذباً حقيقة. فلا تدخل في موضوع الحرمة.
ولكنني لا أقول: إن الكذب بالدلالة الالتزامية كله جائز. بل ان الكذب بالدلالة الالتزامية للجملة الخبرية حرام. وخاصة إذا كانت دلالتها المطابقية كذباً أيضا، فيحسب له كذبان لا محالة: أحدهما مطابقي والآخر التزامي.
فهذا هو أهم ما يخرج عن موضوع حرمة الكذب، وأما المستثنيات منها فهذا ما يحتاج إلى عنوان مستقل آت.