كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 

ومنها : إنصاف الناس ولو من النفس . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك . ومواساة الأخ في الله تعالى على كل حال " .

 

وهذا الإنصاف يكون بالأخذ بحقوقهم والعمل بها والاهتمام بها . فأن انضم إلى ذلك ترك حق نفسه والتنازل عنه كان أفضل .

 

ومن ذلك دفع دين الدائن والقبول بالعقوبة كالحد والتعزير ، وإرضاء الغضبان ، واحترام من يستحق الاحترام شرعاً ، وصلة الرحم ، وقضاء حاجة المحتاج ولو بحرمان النفس ولو قليلاً ، أو كان في قضاء تلك الحاجة جهد أو ذلة ، إلى غير ذلك .

 

ومنها: اشتغال الإنسان بعيبه عن عيوب الناس . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : طوبى لمن شغله خوف الله عزَّ وجل عن خوف الناس . " طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب المؤمنين " .

 

وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إن أسرع الخير ثواباً البر وإن أسرع الشر عقاباً البغي وكفى بالمرأ عيباً أن يبصر من الناس ما يعمي عنه في نفسه . وأن يعيّر الناس بما لا يستطيع . وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه .

 

والمقصود هنا اشتغال الإنسان بعيبه بإزاء النظر إلى عيوب الناس واشتغاله بالإزراء بهم والتكبر عليهم . فإن ذلك يعد منقصة أخلاقية أكيدة .

وأما النظر إلى عيوب الناس لأجل إصلاحهم ، فهو راجح بل قد يكون واجباً والتذكير بها من الأمر بالمعروف بكل تأكيد .

 

كما أنه ليس المراد اشتغال الإنسان بعيبه حتى عن ذكر الله سبحانه . فإنه ممقوت أخلاقياً ، بل يمكن الجمع بينهما يعني الالتفات إلى العيوب تواضعاً أمام الله سبحانه وتقديماً للذلة والعجز أمامه .


صفحة (164)
 

وأما قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) " طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف الناس " . فهو مطابق لقوله تعالى : ﴿ الذين يخشون الله ولا يخشون أحداً إلاَّ الله . وقوله تعالى : ﴿ لا تأخذه في الله لومة لائم . فإن المفروض بالمؤمن قوة الإرادة ضد كل ما يبعد عن الله سبحانه وتعالى.

 
ومنها : إصلاح النفس عن ميلها إلى الشر . قال الله تعالى :
﴿ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلاَّ ما رحم ربي . وقال سبحانه : ﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا . ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً .

 

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : من أصلح سريرته أصلح الله علاينته ، ومن عمل لدينه كفاه الله دنياه . ومن أحسن فيما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس .

 

ومنها : الزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها . قال أبو عبد الله ( ع ) : من زهد في الدنيا أثبت الله الحمة في قلبه وأنطق بها لسانه . وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها . وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام .

 

وقال رجل : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إني لا ألقاك إلاَّ في السنسن ، فأوصني بشيء حتى آخذ به . فقال: أوصيك بتقوى الله عز وجل لرسوله : ﴿ لا تمدن عينك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا. وقال تعالى : ﴿ ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم  . فإن خفت ذلك فاذكر عيش رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنما كان قوته من الشعير وحلواه من التمر ووقوده من السعف إذا وجده .

وإن اصبت في نفسك أو مالك أو ولدك ، فاذكر مصابك برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط .

 

الفقرة ( 15 )

 

وقال أمير المؤمنين ( ع ) في نهج البلاغة : من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها في قلبه آثرها على الله تعالى ، فانقطع إليها وصار عبداً لها . ولقد كان في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كاف في الأسوة. ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها . إذ قبضت عنه أطرافها ووطئت لغيره أكنافها وفطم عن رضاعها وزوي عن زخارفها .

 

صفحة (165)

 

 

وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ يقول : ﴿ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير. والله ما سأله إلاَّ خبزاً يأكله ، لأنه كان يأكل من بقلة الأرض . ولقد كانت خضرة البقل من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذب لحمه .

 

وإن شئت ثلثت بدواد صلى الله عليه صاحب المزامير وقارء أهل الجنة . فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ، ويقول لجلسائه أيكم يكفيني بيعها ؟ ويأكل قرص الشعير من ثمنها .

 

وإن شئت قلت في عيسى ابن مريم عليه السلام . فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب ، وكان إدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها . وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم . ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ولا طمع يذله . دابته رجلاه وخادمه يداه .

 

فتأسّ بنيك الأطيب الأطهر ، صلى الله عليه وآله . فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى . وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه المقتفي لأثره قضم الدنيا قضماً ولم يعرها طرفاً . أهضم أهل الدنيا كشحاً وأخصمهم من الدنيا بطناً ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها . وعلم أن الله أبغض شيئاً فأبغضه وحقر شيئاً فحقره ، وصغر شيئاً فصغره .

 

ولو لم يكن فينا إلاَّ حبنا ما أبغض الله رسوله ، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقاً لله ومحادة عن أمر الله .

 

ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ، ويرقع بده ثوبه. ويركب الحمار العاري ويردف خلفه. ويكون الستر على باب بيته ، فتكون فيه التصاوير ، فيقول : " يا فلانة – لإحدى أزواجه – غيبيه عني ، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها " .

 

صفحة (166)