|
||
|
كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه ، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ، لكي يتخذ منها رياشاً ، ولا يعتقدها قراراً ولا يرجو فيها مقاماً . فأخرجها من النفس وأشخصها عن القلب وغيبها عن البصر . وكذا من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده .
ولقد كان في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ما يدل على مساوئ الدنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصته ، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته .
فلينظر ناظر بعقله أكرم الله محمداً بذلك أم أهانه . فإن قال : أهانه ،
فقد كذب والعظيم . وإن قال : أكرمه . فليعلم أن الله تعالى قد أهان
غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه . فتأسى متأس بنبيه، واقتفى أثره ، وولج مولجه. وإلاَّ فلا يأمن الهلكة . فإن الله جعل محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم) علماً للساعة ومبشراً بالجنة ومنذراً بالعقوبة . خرج من الدنيا خميصاً وورد الآخرة سليماً. لم يضع حجراً على حجر , حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه .
فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتبعه ، وقائداً نطأ عقبه . والله قد رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها . ولقد قال لي قائل : ألا تنبذها . فقلت : اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى .
في ذكر بعض الأمور التي هي من المنكر . منها : الغضب . قال رسول اله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل".
وقال أبو عبد الله ( ع ) : الغضب مفتاح كل شر, وقال أبو جعفر ( ع ) : إن الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار . فأيما رجل غضب على قومه وهو هائم فليجلس من فوره ذلك . فإنه سيذهب عنه رجس الشيطان . وايما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه . فإن الرحم إذا مست سكنت .
صفحة (167) أقول : فهنا نقطتان : النقطة الأولى : إن الغضب قد يكون للدنيا ، كما هو الأغلب في أوضاع الناس ، وقد يكون للآخرة ، والمفهوم منه إنما هو الأول . وهو المراد من هذه الأخبار ، حملاً لها على الأعم الأغلب .
وبملاحظة أخرى : إن المهم في تحمل المسؤولية هو استعمال الغضب وإظهاره والسير في اتجاهه . وعندئذ فقد يكون ما يفعله الفرد حراماً وقد يكون مباحاً وقد يكون واجباً من الناحية الشرعية .
فإن كان واجباً فلا غضاضة فيه ، بل يعتبر تركه جريمة شرعاً وأخلاقياً ، وهو الغضب لله سبحانه . وأما غيره ففيه خلة أخلاقية بلا أشكال . وإن كان من الناحية الفقهية لا يمكن القول بحرمته ، إلاًّ إذا استتبع فعلاً حراماً . وأما الفعل المباح فليس ممنوعاً فقهياَ ، ولكنه مرجوح أخلاقياً .
فإذا علمنا أن نسبة الغضب الواجب إلى غيره نسبة قليلة لا محالة . علمنا كيف أن الصفة الأخلاقية العامة للغضب هي الغضاضة والمرجوحية . ومن هنا كان النهي عنه في الروايات مطلقاً .
النقطة الثانية : إن الرواية تعطي طريقتين لكتم الغضب ودفعه ، إن لم يمكن الصبر عليه بالمباشرة . وذلك بإحدى طريقتين ، كلتاهما من الفهم الباطن للقوانين الكونية .
الطريقة الأولى : إنه إذا غضب وهو قائم فإنه يجلس ، فإنه يذهب عنه رجس الشيطان . ويحسب فهمي ، فإن المهم تغيير الحالة التي هو فيها ، وإنما ذكر ذلك لمجرد المثال .
وبالطبع فإنه إنما يذهب إذا أراد الفرد بذلك زواله ، دون ما إذا تمسك به ، أو لم يقصد ذلك أو كان غافلاً عن نتيجته كما هو الأغلب .
الطريقة الثانية : إنه إذا كان الطرفان من ذوي الأرحام ، أي من عشيرة واحدة ، كفى اللمس المباشر إطفاء الغضب . لأن الرحم قد تضطرب ( فإذا مست سكنت ) وهو قانون باطني لا حاجة إلى الإفاضة في ذكره .
صفحة (168)
وظاهر العبارة أن أياً منهما مس الآخر سكن غضب الغضبان . فإن الغاضب نفسه إن مس صاحبه سكن . وكذلك العكس ، وهو واضح في سياق الرواية ، لأنه قال : فليدن منه والدنو من الغضبان صعب ما دام الغضب ضده . إذن ، فالماس هو الآخر وليس الغاضب نفسه .
وهذا معناه أن غضب الغاضب سوف يقل أو يزول رغماً عليه ، وإن لم يرد ذلك وإن لم يلتفت إليه ، بل وإن لم يكن مطلعاً على هذه الفكرة ، وهذا القانون . وهذا أمر محتمل ، بل مجرب .
ومنها : الحسد . قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام : إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذات يوم لأصحابه : " إنه قد دبّ إليكم داء الأمم ممن قبلكم . وهو الحسد . ليس بحالق الشعر ولكنه حالق الدين . وينجي منه أنه يكف الإنسان يده ويخزن لسانه ، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن " .
والحسد أخلاقياً هو تمني زوال النعمة عن الآخر ، وانتقالها إليه أو اتصافه بها ، ومن هنا قد يفعل الأفاعيل ضد الآخر حسداً له . ولذا تنهى الرواية عن ذلك بقوله ، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن .
ومن ذلك : الحسد الذي اتصف به إبليس ضد آدم عليه السلام ، لما رآه أشرف منه ، فسعى به حتى خدعه وورطه .
وقال الأخلاقيون : إن الحسد هو تمني زوال النعمة عن الآخر ، فإن لم يكن فيه ذلك ، وإن كان يتمناها لنفسه، بحيث يتمنى اجتماع النعمتين لهما معاً . فهو الغبطة وليس الحسد . ومن الواضح انه إذا لم يتمن زوال النعمة عن صاحبه لم يمكر به . فلا تكون للغبطة نتائج السوء لتي للحسد .
ومن الطبيعي أن الحسد يحلق الدين ، كما في الرواية، أي يزيله ويتلفه .لأن المهم وإن كان هو عاطفة الحسد، إلاَّ أن الأهم هو العمل السيئ الذي يقوم به الحاسد . وكله عمل محرم ، لأنه من إيذاء المؤمن والإضرار به . وكل من يفعل المحرم ، أو لا مانع له من ذلك ، فهو غير متورع أكيداً ، يعني غير متصف بالورع فضلاً عن التقوى . فيكون مشمولاً للقاعدة التي تقول : لا دين لمن لا ورع له .
صفحة (169) |
|