وقد اتصف هذا العصر بعدة خصائص ، يشترك بعضها مع بعض ما سبقه من عصور الخلافة ، ويستقل بالبعض الاخر . فكان جملة ما يلاحظ على هذا العصر من خصائص ، هي :

أولاً : ضعف الخلافة ، وسقوط هيبتها من أعين الناس إلى حد كبير . نتيجة لعدة عوامل ، منها : استيلاء الأتراك على العاصمة ، واستيلاء العمال والأمراء على الأطراف ، وانعزال الخليفة انعزالاً يكاد يكون تاماً عن ممارسة الحكم ، حتى قال المعتمد ، بعد التجربة التي قاساها :

               أليس من العجائب أن مثلي            يرى ما قل ممتنعاً عليـه

               وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً             وما من ذاك شيء في يديه

               إليه تحـمل الأموال طـراً             ويمنع بعض ما يجبى إليه (1)

 

ومنها : الليالي الحمراء واللهو والمجون ، الذي كان ينغمس فيه الخليفة بعد استلامه كرسي الحكم ، وينصرف به جزيئاً أو كلياً عن النظر في شؤون الناس . يستثنى من ذلك المهتدي بالله الذي كان أحسنهم مذهباً وأجملهم طريقة، حاول أن يكون في بني العباس ما كان عمر بن عبد العزيز في بني أمية (2) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)    الكامل  ص 73 جـ 6 .

(2)    الكامل جـ 5 ص 358  والمروج جـ 4 ص 103 وابن الوردي جـ 1 ص 234 .


صفحة (58)

 

إلا أن ذلك كان بنفسه نقطة ضعف في نظر أصحابه الأتراك والمغاربة والفراغنة ، فقاتلوه حتى قتلوه (1) .

أما حوادث اللهو والخمر والمنادمة ، فهذا أوضح من أن يستشهد له ، وكتب التاريخ زاخرة به . ولعل خير ما يذكر في المقام ، موقف المتوكل من الإمام الهادي عليه السلام ، حيث أرسل جماعة من الأتراك لكبس بيته والقبض عليه في جوف الليل . فألقوا عليه القبض وهو يقرأ القرآن ، وحمل إلى المتوكل ، فمثل بين يديه ، والمتوكل يشرب وفي يده كأس فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس الذي في يده . فقال : يا أمير المؤمنين ، ما خامر لحمي ودمي قط ، فاعفني ، فأعفاه (2) ، إلى آخر الحادثة التي سوف تأتي في مقبل البحث .

ثانياً : استيلاء الموالى على دفة السياسة العليا ، في العاصمة والأطراف ، وأكثرهم من الأتراك وعزل الخليفة جزيئا أو كلياً عن النظر في شؤون الدولة .

فمن هؤلاء : بغا الكبير وابنه موسى بن بغاء وأخوه محمد بن بغاء وكيغلغ وبابكيال واسارتكين وسيما الطويل وياركوج وطايغو واذكوتكين وبغا الصغير الشرابي ووصيف بن باغر التركي.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)    الكامل ص 355 من نفس الجزء .

(2)    المروج جـ 4 ص 11 وابن خلكان جـ 2 ص 434 وابن الوردي جـ 1 ص 232 وغيرها من التواريخ .


صفحة (59)

 

وقد تفرد هذان الأخيران بالأمور (1) وفيهما قيل :

           خليفة في قفص             بين وصيف وبغا

            يقول ما قالا له             كما تقول الببغا (2)

 

وكان هؤلاء القواد الموالى تارة ضدة الخليفة وأخرى ضد أعدائه ، بحسب ما يرون من المصلحة ، فهم في الوقت الذي لا يجد الخليفة سواهم من يرسله إلى الأطراف لقتال العصاة والخارجين عن الطاعة ، فإنهم يكونون خارجين عليه في كثير من الأحيان ، ويقومون بقتل الخلفاء ، واحداً بعد الآخر ، إما لتهديد الخليفة بعض قوادهم (3) أو لتأخر أرزاقهم وروابتهم (4).

وقد ذكرنا قتلهم للمتوكل والمهتدي ، ونجد لهم حوادث جمة ، كخلعهم المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية  العهد (5) واستخلافهم للمستعين(6) واستيلائهم على الأمول في عهده(7) ومقاتلتهم إياه عندما غضب عليهم واعتصم ببغداد ، ومبايعتهم للمعتز وما رافق ذلك من القتال والجهد والبلاء على أهل بغداد حتى أكلوا الجيف (8) ، وقد تقع الفتنة بينهم حتى يؤدي الحال إلى القتال ، حين احتج المغاربة على الأتراك وقالوا لهم : كل يوم تقتلون خليفة وتخلعون آخر وتعلمون وزيراً (9).

ــــــــــــــــــــــــ

(1)    العبر ص 5 جـ 2 .         (2)    المروج جـ 4 ص 61 .

(3)    المروج جـ 4 ص 92 .   (4)    الكامل جـ 5 ص 341 .

(5)    المصدر ص 309 .          (6)    المصدر ص 311 .

(7)    المصدر ص 313 .          (8)    الكامل ص 320 والعبر جـ 2 ص 2 .

(9)    الكامل ص 333 جـ 5 .


صفحة (60)