والسبب في ذلك واضح وهو أن التوجس من الإمام وأصحابه والخوف من تحركاته ، لو كان مقتصراً على شخص الخليفة أو بطانته لهان الأمر ، ولاستطاع الإمام بكثير من الوسائل إخفاء نشاطه وبث تعاليمه بعيداً عن أنظار الدولة .ولكن الأمر ليس كذلك ، بل كان هذا التوجس والإنحراف متمثلاً في خط اجتماعي عام لم يكن الخليفة إلا أحد أفراده ... يضم كل من سيطر على الدولة وكسر شوكة الخلافة ، كالموفق نفسه وجماعة الأتراك والموالي في اكثر قوادهم وعامتهم. كما يضم ، إلى جانب ذلك ، عدداً كبيراً من المصلحين والمنتفعين و" أعضاء الشرف" في جهاز الدولة الكبير.

فكان هذا الخط الإجتماعي العام يتعاون ويتضامن ضد الخط العام الذي تمثله قيادة الإمام عليه السلام .ويحاول بكل صراحة وجد أن يبعد الإمام وأصحابه عن المسرح السياسي والإجتماعي ويعد عليهم انفاسهم ويحاسبهم على القليل والكثير .فمن ثم لا ينبغي أن نتوقع خفة الضغط بتوالي الأعوام ، بل شدته وترسخه وعمق تأثيره.

وعلى أي حال ، فينبغي أن نكون على ذكر من ذلك ، في مستقبل البحث فإنه يمثل أحد الأسباب المهمة لحدوث الغيبة.

تفاصيل مواقفه:

إذا نظرنا إلى مواقفه وأعماله عليه السلام ، نجدها امتداداً طبيعياً لمواقف وأعمال والده عليه السلام ، كما هو  غير خفي لدى مقارنة بعضها من بعض ،ومعرفة أنها تستقى من معين واحد وتتجه اتجاهاً متشابهاً .

 

صفحة (168)

 

ونستطيع أن نقسم مواقفه عليه السلام إلى أربعة :

الموقف الأول: موقفه تجاه من لا يؤمن بإمامته ، حكاماً ومحكومين كإقامة الحجة عليهم أو تعليقه على بعض أعمالهم.

الموقف الثاني : جهاده العلمي في رد الشبهات وإيضاح الحق.

الموقف الثالث: موقفه من أصحابه ، محذراً لهم من  الوقوع في الشرك العباسي ، أو معيناً لهم على نوائب الدهر.

الموقف الرابع : تمهيده لغيبة ولده قائم آل محمد (ص) .

فلا بد من الدخول في تفاصيل هذه المواقف :

الموقف الأول: موقفه تجاه من لا يؤمن بإمامته :

ومن خلال تفاصيل هذا الموقف يمكن أن نضع يدنا على عدة نقاط : النقطة الأولى: موقفه من خلفاء عصره :

كانت السياسة العباسية تجاه الأئمة عليهم السلام ، تلك السياسة التي سنها المأمون تجاه الإمام الجواد وطبقها المتوكل نجاه الإمام الهادي ،وهي ربط الإمام بالبلاط ودمجه بالحاشية توصلاً إلى دوام مراقبته ودقة الإطلاع على أمره وفصله عن قواعده الشعبية الموالية له ..كانت هذه السياسة سارية المفعول تجاه الإمام  العسكري ، فكان كوالده محجوزاً في سامراء مسؤولاً عن الذهاب إلى بلاط الخلافة كل اثنين وخميس.(1)

ــــــــــــــــــــ

(1) المناقب ج3 ص533


صفحة (169)

 

إلا أن علاقته بالخلفاء كانت باحتراس وحذر مضاعفين ،وكانت خالية من الضجيج الذي كان يثار حول والده عليه السلام بل كانت تقام بشكل روتيني رتيب ، تمسكاً بتلك السياسة العامة بدون أن ينقل خبر في التاريخ عن تفاصيل العلاقات بينه وبين كل واحد من خلفاء عصره.

وإنما اقتصر التاريخ على نقل تنبؤات الإمام عليه السلام ، بموت من مات في عصره من الخلفاء ،وهم اثنان : المعتز والمهتدي.

أما بالنسبة إلى المعتز، فنجد الإمام عليه السلام يكتب إلى أحد أصحابه قبل موت المعتز بنحو من عشرين يوماً:الزم بيتك حتى يحدث الحادث . فيتخيل الرجل أن المراد الإشارة إلى حادث آخر.. فلما قتل بريحة كتب إليه: قد حدث الحادث فما تأمرني . فكتب الإمام إليه :

ليس هذا الحادث .الحادث الآخر ، فكان من المعتز ما كان(1). وكلنا يعرف ما الذي كان ، من مقتل المعتز عام 255هـ بيد الأتراك على اساس ضيق ذات يده عن دفع الرواتب والأرزاق ،وبخل أمه عن إمداده بالمال ، على ما سمعنا من التاريخ العام في الفصل الأول.

ــــــــــــــــــــ

(2) المناقب ج3 ص536


صفحة (170)