وهذا ، لو فرضت صحته فهو ناشيء من أحد منشأين:

المنشأ الأول : ما سبق أن عرفناه من السياسة التي اتبعها العباسيون تجاهه وتجاه والده وجده عليهم السلام ، تلك السياسة التي كانت قائمة – بحسب التحليل – على ركائز ثلاثة :أولها : تقريت الإمام من البلاط والدمج بالحاشية .
ثانيها : مراقبته والفحص عن أموره صغيرها وكبيرها جملة وتفصيلاً.
ثالثها : إكرامه ، واحترامه ظاهراً ، لأجل ذر الرماد في عيون الناس وإسكات من يحاول الإحتجاج على مراقبته ومضايقته.

ومن الطبيعي أن يحتاج تقريبه من البلاط إلى حياة مرفهة توازي كل من هو قريب من البلاط ومندمج في الحاشية .ولا يمكن أن تدرك الدولة العباسية غير ذلك ، كما أن الدولة كلما شددت على المراقبة والمطاردة احتاجت إلى رماد أكثر لتذره في عيون الناس بطبيعة الحال.

ومن الطبيعي أن نتصور ان الإمام قد حصل على عدد من هؤلاء الغلمان نتيجة لهذه السياسة .والإمام يتقبلها لأمرين:الأول: تمشياً مع سياسته السلبية تجاه الدولة وتجنباً لإثارة الخلاف معها. الثاني: كون ذلك في مصلحة العبيد أنفسهم ،من حيث إنقاذهم من براثن الباطل والإنحراف وانتقالهم إلى طريق معرفة الحق ..،سيرهم في طريق الإنعتاق في نهاية الشوط .

 

صفحة (190)

 

المنشأ الثاني : ما عرفناه أيضاً من أن الإمام عليه السلام بصفته الرئيس الأعلى لمواليه والمؤمنين به يستقطب ، بحسب الإمكان ، كميات الأموال التي كانت ترد إليه من الأطراف من الحقوق الشرعية وغيرها مما يرسله مواليه، وكان يصرف القسم الأكبر منها على المصالح الإجتماعية والإسلامية لأصحابه ومواليه. وقد يبقى عنده – بعد ذلك – كمية من الأموال التي يستطيع الحصول بها على عدد من العبيد ، لأجل مصالحه العامة والخاصة ومصالح العبيد أنفسهم أيضاً.

ولا يفوتنا في هذا المجال أن نحتمل – على الأقل – أن جملة الأموال قد ترد إليه – حين ترد- على شكل عبيد لا على شكل نقود . فيكون ذلك موجباً لتكدسهم لديه.

على ان الرواية عبرت بالغلمان ، والغلام في اللغة : العبد والأجير ..فربما كان عدد منهم أحراراً ولم يكونوا عبيداً .كان يستأجرهم للقيام بأمور معينة تعود إلى مصالحه الخاصة والعامة ، والرواية لم تدل على اجتماعهم دفعة واحدة ليقال :أي حاجة إلى هذا المقدار من الإجراء يومياً.

الأمر الثاني: مما يلاحظ دلالة الرواية عليه كما قلناه أن القاعدة العامة تقتضي كون الإمام خلال حياة أبيه أن يكون منعزلاً عن المسؤولية فارغاً عن شؤون القيادة وأعمالها ،وتطبيقاً لهذه القاعدة كان الإمام الهادي عليه السلام يحجب ابنه عن المجتمع ويبعده عن العلاقات العامة .

وكان التركيز على الإمام العسكري (ع) من هذه الناحية أشد ، تهيئة الذهنية العامة لتقبل احتجابه تقديماً لتهيئتها لغيبة الإمام المهدي عليه السلام ، على ما سوف نشير إليه.

 

صفحة (191)

 

الأمر الثالث: أن الإمام عليه السلام ، مضافاً إلى هدايته لغلمانه الموالي ولإقامة الحجة عليهم ،فإنه أقام الحجة على الرواي أيضاً ، بعد أن تعجب من معرفة الإمام بمختلف اللغات ،وكان حاصل مراد الإمام في جوابه: أن الإمام يجب أن يكون المثال الأعلى للشعب المسلم وخير أفراد الأمة الإسلامية، إذا فرض أنه كان جاهلاً باللغات – مثلاً- فإنه يكون مشتركاً مع سائر الأفراد في هذا الجهل وليس له عليهم مزية. وهو معنى قوله عليه السلام : لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق، ومن ثم جعل الله تعالى للإمام هذه الخصوصية وهي العلم بكل شيء ، حتى يتحقق فعلاً أنه أفضل سائر الأمة الإسلامية.

ويندرج في هذه النقطة من مواقف الإمام عليه السلام .

ما روى من أن رجلاً بالأهواز ناظر رجلاً من التنويه ، بقصد افحامه وإقامة الدليل الإسلامي الصحيح ضده. ولكنه كان ضعيف الثقافة الإسلامية ، فبدل أن يؤثر فيه تأثر منه،وقويت حجة ذلك الثنوي في نفس الرجل ،ثم أن قدم سامرا...يقول:

فحين رأيت أبا محمد أومأ بسبابته :أحد أحد .فخررت مغشياً علي(1).

أقول :إنما تكون هذه الإشارة دليلاً على المطلوب ، مع أنها تكرار لنفس الدعوى بدون زيادة ..باعتبار أن الإمام استطاع استعمال المعجزة لإثبات الحجة ، فيكون في مستطاع هذا الرجل لأن يقول في نفسه :بأن هذا الإمام قطعي الصدق باعتبار معجزته – وهي علمه بما في نفسي بدون سابق معرفة-  وهو يرشدني إلى أن الرب الذي وهبه هذا العلم رب واحد لا إله إلا هو إذن فيثبت المطلوب ، بالدليل الإنسي باصطلاح الفلاسفة.

ــــــــــــــــــــ

(1) انظر المناقب ج3 ص530 وكشف الغمة ج3 ص215


صفحة (192)