ويندرج في هذه النقطة ايضاً ،ما روي من إقامته للحجة على رجل من وفد جاء إلى سامراء من الأهواز من موالي الإمام علي عليه السلام.

وقد صادف يوم وصول اوفد ، يوم خروج السلطان إلى صاحب البصرة – على حد  تعبير الرواية يعني خروج الموفق لمنازلة صاحب الزنج الذي كان مسيطراً على منطقة البصرة والأهواز ، وكان الإمام العسكري(ع) خارجاً من موكب السلطان .أقول: وهذا تطبيق جزئي لسياسة دمج الإمام بحاشية البلاط .

وإذ يرجع الإمام يمر في طريقه على جماعة الوفد ،وحين يقرب منهم يقف ويمد يده إلى قلنسوته فينتزعها عن رأسه ويمسكها بيده ويمر بيده الأخرى على رأسه ، ثم يلتفت إلى رجل من الحاضرين فيبتسم في وجهه ... ويكون لهذا الموقف بالغ التأثير في نفس الرجل ، فيبادر إلى القول كأشهد أنك حجة الله وخيرته ، قال الراوي : فقلنا : يا هذا ما شأنك .

قال : كنت شاكاً فيه. فقلت  في نفسي :إن رجع وأخذ القلنسوة من رأسه قلت بإمامته(1).

ويطيب لي ان أعلق على هذه الرواية بما يلي :

أولاً أننا نستطيع أن نحدد تاريخ مجيء هذا الوفد من الأهواز إلى سامراء . بعد أن عرفنا أنه وقع في اليوم الذي عقد فيه المعتمد للموفق قائداً لحرب الزنج .ونحن نعرف من التاريخ العام أن ذلك قد وقع في ربيع الأول من عام  258 هـ ...

ــــــــــــــــــــ

(1) انظر الخرايج والجرايج ص64 وغيره.


صفحة (193)

 

وأن المعتمد قد ركب معه يشيعه حين خروجه(1) ومن هنا نعرف أن الإمام (ع) كان في موكب المعتمد.

ثانياً: إن القواعد الشعبية الموالية للإمام عليه السلام ، قد اتسعت وشملت كثيراً من المناطق الإسلامية .وكانوا يرجعون في تحديد وضعهم الديني والإجتماعي والإقتصادي إلى الإمام .ويتم ذلك بأحد طريقين :

الطريق الأول: إرسال الوفود ، لنقل الأموال التي تحصل من الحقوق والضرائب الإسلامية وتسليمها إلى الإمام ، ولنقل الإستفتاءات والأسئلة حول مختلف الأحوال الشخصية والإجتماعية والعقائدية من اهل البلاد ، ومعرفة جوابها من الإمام .وقد ورد هذا الوفد من الأهواز ليقوم بمثل هذه المهمة.

الطريق الثاني: الإتصال بوكلاء الأئمة عليهم السلام : فإنه كان لهم وكلاء في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية ، وفي كل منطقة تخضع للإمام بالولاء، يكون الوكيل مشرفاً عاماً على مصالحهم في حدود تعاليم الإمام وقواعد الشريعة الإسلامية. وسيأتي من الأخبار الكثيرة الدالة على ذلك.

ثالثاً: لعلك لاحظت معي كيفية إقامة الحجة على هذا الرجل على شكل سري لا يطلع عليه غيره ، ولا يمكن أن يدخل تحت رقابه أو ضبط. ولو لن ينبس الرجل ببنت شفة لبقيت الحجة مكتومة من غيره إلى الأبد. وبهذا قد حصل الإمام موالياً متيقناً بإمامته ، من دون دخوله تحت طائلة رقابة الدولة .

ـــــــــــــــ

(1) الكامل ج5 ص365-231
 

صفحة (194)

 

الموقف الثاني: جهاده العلمي: من حيث قيامه بمسؤوليته الإسلامية في رد  الشبهات وإقامته الحق ، بطريق  المناقشة العلمية والجدل الموضوعي.

او إصدار البيانات العلمية أو تأليف الكتب ونحو ذلك.

فمن ذلك موقف الإمام عليه السلام من الكندي " أبي يوسف يعقوب بن اسحق"  فيلسوف العراق في زمانه ، حين أخذ في التأليف في تناقض  القرآن ، وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله ، فسلط الإمام عليه أحد طلابه بكلام قال له : جعله يتوب ويحرق أوراقه .

وملخص الفكرة التي بذرها الإمام في ذهن هذا الفيلسوف ، بعد أن وصفه لتلميذه كأنه رجل (يفهم إذا سمع) ... هو احتمال أن يكون المراد بالآيات القرآنية غير المعاني التي فهمها وذهب إليها.

وحين ذكر له تلميذه هذا الإحتمال فكر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر. فقال: أقسمت عليك ألا تخبرني من أين لك.فقال :إنه شيء عرض بقلبي فأورته عليك .فقال : كلا ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا ،ولا من بلغ هذه المنزلة ،فأخبرني من أين لك هذا. فقال: الآن جئت به. وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت ،ثم إنه دعا بالنار ولأحرق جميع ما كان الفه (1).

ـــــــــــــــ

(1) المناقب ج3ص526


صفحة (195)