كان موقفهم ، تجاه المشاكل الداخلية ، للدولة الإسلامية ، تلك المشاكل التي كان يثيرها حكام أو جماعات منحرفة في الداخل ، موقف المراقب والمصلح والناصح . ولم يكن مثل هذا الموقف بسائغ في نظر سائر الحكام من خلفاء ووزراء وقضاة . وكانوا يتقون من ذلك ويحذرونه بعمق ، ويجعلون الاحتياطات المشددة أيضاً ضده فكان هذان  الموقفان  الإسلاميان من أئمتنا (ع) مثيراً لحقد الجهاز الحاكم عليهم وتحذره مهم ، قولاً وفعلاً ، وبالطبع فإن الأئمة (ع) كانوا يعملون بمقدار الإمكان ، وعند ودود الفرص السانحة ، أخذين بنظر الاعتبار هذا الضغط المتزايد الوارد إليهم والموجه إليهم فكان هذا الضغط موجباً لكفكفة نشاط الأئمة (ع) وقلة اصلاحاتهم وضآلة تاثيرهم ، بالنسبة إلى الحاجات الكبرى للمجتمع .

 

ومن ثم كان أئمتنا (ع) يقتصرون في غالب نشاطاتهم ، على الدوائر الخاصة من أصحابهم ، وفي حدود ارتفاع الضغط ، أو قلته أو المخاتلة معه ، وكانت تتسع هذه الدائرة ، أو تضمر أو بحسب الظروف التي يمر بها الإمام (ع) وتتناسب كثرتها تناسباً عكسياً مع ضعف الجهاز الحاكم .

فكان إذا ضعفت الخلافة ، وهي جانبها ينفتح أمام الإمام (ع )في ذلك العصر ، فرصة العمل والجهاد والدعوة كما حدث في زمن الإمام الصادق جعفر بن محمد (ع) الذي عاش في عصر تحول الدولة الإسلامية من الخلافة الأموية إلى العباسية .


صفحة (22)
 

فاشتغل ببث العلوم الإسلامية والتعاليم الالهية على أوسع نطاق. وكان إذا قويت الخلافة أو قوي صنائعها والمنتفعون منها ، فإنه ينغلق أمام الإمام (ع) في ذلك العصر ، فرص العمل والجهاد والدعوة ، إلا في أضيق الحدود .

كا حدث في العصر الذي نؤرخه ، حيث سيطرت الموالى وجماعة الأتراك على الحكم ، وجعلوا الأئمة (ع) تحت أشد الرقابة وأعمق الحذر .

 

والموقف نفسه ، كان هو موقف أصحاب الأئمة (ع) والمجاهدين بين يديهم . فإنهم أن توسع أمامهم (ع) في العمل توسعوا وأن ضيق ضيقوا ، وكان الغمام (ع) ينهى أصحابه ، في أوقات الشدة والضيق عن التصريح بما يخالف القانون والسائد والوضع القائم .

والإمام (ع) بشخصه ، بصفته الرئيس الفعلي ، لقواعد الشعب الكبيرة ، يكون ـ على كل حال ـ في حصانة جزئية عن التنكيل الفعلي المكشوف من قبل الحاكمين ، لئلا يثيروا عليهم الرأي العام والشعب بأكمله آخذين بنظر الاعتبار ، نظر التقديس والإجلال الذي كان ينظره الناس إلى أئمة الهدي (ع) ، ذلك النظر الذي أجمع المسلمون على صحته وصوابه وإخلاصه ، وإن كان جملة منهم ، لا يؤمنون بامامتهم . ومن ثم كان الإمام في حصانة جزئية من التنكيل الفعلي الصريح وهذا هو الذي كان شأن الأئمة (ع) من الإمام الرضا إلى الإمام العسكري عليهم السلام . مضافاً إلى أن سياسة الخلفاء قامت بالنسبة إلى الإمام الجواد (ع) ومن بعده ، إلى تقريبهم للبلاط ، وإسكانهم في بروج عاجية ، توخياً إلى فصلهم التام عن قواعدهم الشعبية ، ونشاطهم الجهادي ، على ما سيأتي تفصيله .


صفحة (23)
 

ولئن كان موقف الأئمة ، محصناً من الناحية الشكلية ، إلا أن موقف أصحابهم وتابعيهم ، ومن عرفه الحكام بالولاء لهم ، كانوا يذوقون سوط العذاب ، إلا أن يتقوا منهم تقاة . فكان أقل ما يلاقيه الفرد منهم العزل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي .

فينتج من ذلك ـ بكل وضوح ـ أمران :

الأمر الأول : ضآلة النشاط السياسي والإجتماعي ، من قبل الأئمة (ع) وأصحابهم ، ذلك النشاط الذي لو كان موجوداً لفتح أفاقاً تاريخية واسعة ، بقيت مطوية وغامضة أمام من يأخذ التاريخ من زاوية موضوعية محضة.

الأمر الثاني :

إن جملة من أعمال الأئمة (ع) وأصحابهم وأقوالهم ، كانت سوية بطبيعتها وأصل ظروف وجودها ، بحيث لم يكن ليتجاوز خبرها الاثنين أو الجماعة القليلة ، وكانوا يتبانون على ستره وكتمانه بأمر من الامام عليه السلام ، ولم يكن مما يكتب على صفحات التاريخ . شأن كل حزب سري معارض ينزل إلى حلبات الجهاد .

 
صفحة (24)