كتاب الزكاة

ومن حقه أن يشكر على كل نعمة من نعمه . ومن حقه أن يذكر حق ذكره في اللسان والجنان . ومن حقه أن ندرك عظمته وهيبته ومن حقه أن ننسب نعمه إليه ، ومن حقه أن ندرك أنه رقيبنا في الصغيرة والكبيرة من ذنوبنا ومن كل أفعالنا . إلى غير ذلك من الموارد . فهل خرجنا من بعض هذه الحقوق ؟

 

الفقرة ( 17 )
 

عرفنا في الفقرة السابقة معنى الغارمين أخلاقياً . فما هو معنى دفع الزكاة إليهم أخلاقياً أيضاً ؟

وبحسب فهمي فإن ذلك يعني إعانة هذا المدين على أداء دينه . وهذه الإعانة يمكن أن تحصل من المخلوقين ، ويمكن أن تحصل من الخالق .

 

أما حصولها من المخلوقين ، فبعده أمور : 

الأمر الأول : هدايته إلى الدين الحق أساساً ، لو كان غير مؤمن في أول أمره.

الأمر الثاني : هدايته إلى المسائل الفقهية أو الأخلاقية في أي مورد بذاته .

الأمر الثالث : حثّه على إطاعة الله سبحانه بتوفير الظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية المناسبة.

 

وهذا قد يحصل من المؤمنين او من الإخوة في الإيمان . وهو من مداليل قوله تعالى : ﴿ المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض . وقد يحصل من غير المؤمنين كما ورد في الحديث القدسي : " الظالم جندي – يعني من قبل الله سبحانه – سواء علم أو لم يعلم " ، وقد يحصل من الملائكة ، وهو من مداليل قوله تعالى :
﴿
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة


صفحة (
34)

 

ولا ينبغي أن ننسى هنا أن دفع االزكاة واجب في ذمة المالك . وها معناه أن هذه الأمور وأنحاءها ، واجبة التنفيذ على من يستطيعها . ومن حق الطرف المتورط (الغارم) أن يطالب الآخرين المتمكنين من هذا التسبيب بإنجازه .


كما لا ينبغي أن نغفل عن أن كل المؤمنين هم غارمون ، بهذا المعنى ، لقصورهم عن أداء حق الله سبحانه . كما أنهم جميعاً ضامنون لمثل هذه الزكاة ، لاستطاعتهم إعانة الآخرين على الطاعة وهدايتهم ونحو ذلك . ومن هناك انطبقت على المؤمن كلتا الصفتين . من جهة اختلاف الاعتبار والنظر .

 

وأما إعانة الله سبحانه للعبد (الغارم) على حسن الطاعة فهو أوضح من أن يذكر بالتوفيق والتسديد وتوفير الفرص المناسبة .

 

الفقرة ( 18 )

 

ومن جملة المستحقين للزكاة : ابن السبيل ، نقدمه في الذكر على سبيل الله بالرغم من تأخره في الآية الكريمة ليكون سبيل الله وهداهم وأوسع المصارف الزكوية ، بمنزلة مسك الختام لذكر المستحقين .

 

وقد ذكر الفقهاء أن ابن السبيل هو كل شخص منقطع به في أي بلد ، بحيث أصبح لا يجد طعامه وشرابه وأجرة سفره راجعاً إلى أهله . والمهم أن يكون بهذه الصفة سواء كان في أهله غنياً أم لا .

 

وعلى أي حال فيعطى من الزكاة بمقدار حاجته وما يرد به إلى أهله ، فإن كان فقيراً في أهله ، وفضل منها شيء كان له تناوله بصفته فقيراً . وإن كان غنياً في أهله وجب عليه رد الباقي أو إعطاؤه إلى مستحقيه بإذن الحاكم الشرعي .

 

وهذه التفاتة إنسانية رائعة في القرآن الكريم إلى مثل هذه المرحمة وإنقاذ النفس المحترمة إذ لولا ذلك لكان من المحتمل هلاك هذا المؤمن جوعاً أو برداً أو أن تفترسه الوحوش ونحو ذلك .فإن لم نجد في ( فقه الأخلاق) من أخلاقية أو إنسانية من التشريع إلاَّ ذلك لكفى .

صفحة (
35)

 

إلاَّ أن هناك معنى آخر أعمق من ذلك يمكن أن نفهمه من ابن السبيل . وهو من تقتضي ظروفه أو ضروته أو جهله أن ينقطع عن جماعته الأصلية التي يتصل بها وتحمل له في قلبها الإخلاص ، إلى جماعة أخرى مضرة بحالة من حيث يعلم أو لا يعلم .

 

وهذا يمكن أن يكون على مستوى دنيوي كمن ينفصل عن أسرته أو عن مشاركيه اقتصادياً أو اجتماعياً، فيسوء حاله لهذا الانفصال ، ويكون عرضة لمكر الماكرين وإيذاء المخادعين . فيصبح بهذا المعنى ابن السبيل، وكون المطلوب إنسانياً ودينياً ، إنقاذه من ورطته وإرجاعه إلى مركز انتفاعه ، ونحو ذلك . 

كما يمكن أن يكون على مستوى عقائدي أو ديني ، كمن كان مستفيداً من معلم أو شيخ أو أصدقاء طيبين ، ثم اقتضت ظروفه الانفصال عنهم لأي سبب دنيوي ، الأمر الذي ينتج تسيبه عقائدياً أو تشتت أمره دينياً ،  ومن ثم احتمال انزلاقه في المحرمات أو الفاحشة أو السرقة أو أي شيء منن هذا القبيل .

 

فمثل هذا الفرد يكون ابن السبيل يحتاج إلى إنقاذ من ورطته وإرجاعه إلى عشه ، وإعادة ما يحتاج من هداية وتوجيه ، من قبل أي قلب طاهر قادر على ذلك .

 

ويمكن أن نخطو خطوة أخرى في معنى ابن السبيل . وهو من كانت له فرصة طاعة الله سبحانه , ثم انسلبت منه ، فبدلاً من أن نقول كما قلنا ، من أنه يفارق معلمه أو صديقه ، نقول الآن : إنه كان في طاعة الله وابتعد عنها . أو كان مع الله والان هو مع الشيطان . فيحتاج إلى من يرجعه إلى الله وطاعته .

 

كما نستطيع بيان معنى آخر مقارب نسبياً ، مبني على القول بوجود الأرواح قبل وجود الأجسام . ولعله هو الذي يسمى بعالم المثل فلسفياً ، وينسب مشهورياً إلى أفلاطون ، ويدعمه ابن سينا في قصيدته العينية المشهورة ، والتي أولها : نزلت إليك من المحل الأرفع . إلى أن يقول :

 

             تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمـى            بمدافع تهــــمي ولما تقلع

            حتى إذا اقترب المسير إلى الحمى            ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
 

فإذا أرسلت إلى الدنيا . وولدت فيها ، كانت ابن السبيل ، لأنها منقطعة عن عالمها التي كانت فيه وسعادتها التي تميل إليها غريزياً . وتحتاج إلى الرجوع إليها حاجة الرضيع إلى محالب أمه . 
 

صفحة (36)