كتاب الزكاة

الفقرة ( 16 )

 

ومن جملة مستحقي الزكاة : الغارمون .

وفسرها الفقهاء بأنهم الأفراد الذين ركبتهم الديون وعجزوا عن أدائها .

ويشترط فيها أمران :

أحدهما : أن لا تكون هذه الديون مصروفة بالباطل . فإن كانت كذلك لم يعط من الزكاة لأدائها .

ثانيهما : أن يكون الفرد صالحاً في نفسه مؤدياً لفرائض ربه . كالصلاة التي هي عمود الدين .


مضافاً إلى شروط أخرى يمكن أن يستفاد من عباراتهم ذاتها . وهي قولهم : ركبتهم الديون . حيث قد يرا منها فداحة الدين لصاحبه . يعني زيادة نسبة الدين على الدخل ، بحيث تستبعد قدرته على أدائه بأية حال . فان كانت حاله أفضل من ذلك اقتصادياً لم يعط .

 

ولكن قد تفسر العبارة بكون رقم الديون عالياً . وكلها مما يعجز عن أدائها عادة . فلو كان الدين قليلاً لم يعط من الزكاة  ، ولو كان عاجزاً عن أدائها .

وهذا الوجه قابل للمناقشة فقهياً ، لا أقل من كونه مخالفاً لإطلاق الآية ، من حيث صدق الغارم على المدين بالقليل وعلى المدين بالكثير ، ما دام يستبعد قدرته على أدائه . وتمام الكلام في محله .


وإنما المهم الآن أن نلتفت إلى معنى الغارم أخلاقياً . ويمكن أن نعبر عنه أنه الذي أكل حق الغير وغطمه بدون استحقاق ، كما أن المدين يأكل أموال الدائن وهي ليست له .

 

وهذا الغير الذي يغمط حقه صنفان لأنه : إما أن يكون هو المخلوق وإما أن يكون هو الخالق ، فذلك الآخر يكون مديناً أو غارماً .

 

 صفحة (31)

 

وإذا استقام هذا الفهم ارتبط الأمر مباشرة بحق الناس وحق الله ، فأي حق أديته لصاحبه ، فهو المطلوب ، وإلاَّ كنت مديناً على أدائه ، ومشغول الذمة أو المسؤولية في التحلل من صاحبه والتوبة أمامه جهد الإمكان .

 

وتفترق حقوق الناس عن حقوق الله تعالى بنقطة ضعف ونقطة قوة .

أما نقطة الضعف: فلأن حقوق الناس أهون غمطاً من حقوق الله . للفرق بين أهمية الله وأهمية الناس أنفسهم. لوضوح أن الفرق كلما كان أهم كان غمطه أصعب ، يعني أشد مسؤولية .

 

وأما نقطة القوة ، في حقوق الناس ، فلأن حقوق الله سبحانه أسهل أداء بالتوبة والإنابة ، والله سبحانه غفور رحيم ، وسريع الرضا . وهكذا أراد لنفسه جل جلاله معاملة الخلق بالرحمة التي وسعت كل شيء . في حين أن أداء حقوق الناس يتوقف على رضاء الطرف. مع أنه قد لا يرضى إلاَّ بصعوبة أو يكون استرضاءه صعباً ويحتاج إلى المرور ونحو ذلك . او قد تترتب عليه فتن . فيبقى الحق مسجلاً غير قابل للأداء .

 

ولسنا الآن بصدد ذكر تفاصيل هذه الحقوق , فإنها تخرج بنا عن صدد موضوعنا .

 

وإنما نريد الآن أن نعطي الأمثلة لحقوق الله سبحانه التي يمكن للعبد أن يغمطها ويتجاوز عليها ، وعند ذلك يكون العبد مديناً ويكون الله دائناً بالمعنى الأخلاقي ، إلاَّ أنه يختلف عن سائر الدائنين من عدة جهات :

 

أولاً : إنه يحلل دائنيه ويفرغ ذممهم من كثير من ديونه : بالعفو والصفح والمغفرة .

ثانياً : إنه يصبرعلى طول الدين . فإن تباطأ الفرد في أدائه عفا عنه .
وبالرغم من أن البطء دين آخر. إلاَّ أن المهم هو الأداء ولو بعد حين . وهذا معنى كون باب التوبة والإنابة مفتوح ما دام النفس موجوداً أي ما دام الفرد في هذه الحياة الدنيا .

ثالثاً : إن هذا الدين هو الذي يسبب للمدين طريق وفاء لما في ذمة المدين .

 

صفحة (32)

 

بل المسألة أكثر من ذلك ، فإن هذا الدين يعتبر ما أخذه من الدين من مدينه ديناً في ذمته يستحق عليه أداؤه .

وهذا معناه أن الله تعالى كأنه يعتبر نفسه مديناً بالثواب لعبده : على أعماله الصالحة وطاعته . غير أن الفرق أن العبد كان بمنزلة العاجز عن أداء حق ربه . عندما يكون مديناً له . ولكن الله سبحانه قادر على أداء الدين الذي اعتبره على نفسه ، من إعطاء الثواب الجزيل والجزاء الجميل .

 

وهذا من المعاني المقصودة في العبارة الواردة في الدعاء : وأنت الوهاب ثم لما وهبت لنا من المستقرضين .

بل الأمر أكثر من ذلك  ، فإن العبد بصفته مديناً لله سبحانه لا يستطيع أن يدفع كل دينه ، بل تبقى نسبة منه غير مدفوعة لا محالة ، لاستحالة أن يطاع الله تعالى حق طاعته وأن يؤدي الله كل حقه . فيبقى العبد راجياً للمغفرة والتسامح من هذه الجهة .

 

في حين أن الله سبحانه بصفته مديناً لعبده بالثواب فهو قادر على أدائه ، بل يؤدي بأضعاف مضاعفة . ويعطي بالحسنة عشر أمثالها بل أكثر حينما يقول :﴿ ولدينا مزيد . فهي من هذه الناحية أشبه بالمعادلة الربوية حيث يعطي المدين أكثر مما أخذ . إلاَّ أنه يختلف عنهما ، بكون الربح الإضافي إنما هو مدفوع برضا المدين وبطيب قلب منه .

 

وقد شبّه الله تعالى ذلك في آية أخرى بالتجارة ، وأن هذه الزيادة كأنها ربح تجاري يأخذه الفرد من ربه     ﴿تجارة تنجيكم من عذاب أليم . يكون فيها الله مشترياً والعبد بائعاً .

 

ويحسن الآن أن نفي بالوعد الذي ذكرناه قبل صفحة بتعداد بعض حقوق الله سبحانه على عبده . أعني من جهة ما يتوقع من العبد أن يفعله تجاه ربه . فإن لم يفعل أو انه قصر في ذلك كان مديناً . وقد عرفنا أنه مقصر لا محال لاستحالة أن يعطي الله سبحانه كل حقه عن كل تلك الجوانب .

فمن حق الله أن يطاع في كل أوامره ونواهيه سواء الإلزامية منها أو الاستحبابية . ومن حقه زيادة التركيز في الطاعة . ومن حقه الأخذ بالرخصة ، كما ورد في بعض الأخبار .
 

صفحة (33)