كتاب الزكاة

وعلى أي حال ، فتأليف القلوب بالنفع موجود على كل المستويات ، إلا من استطاع الارتفاع عن ذلك في مدارج الكمال ، وهو أيضاً يمر لا محالة في مراتب تكامله بمثل هذه الأمور .

 

فمبجرد أن يكون الفرد محتاجاً لشيء دنيوياً أو أخروياً . ويحزر الفرد الآخر أن عنده قضاء حاجته ، يكون الأول مستحقاً لدفع هذه المنحة أو الصدقة أو الزكاة ما شئت فعبر . وكل قضاء حاجة هو صدقة وزكاة وقربة إلى الله سبحانه ما دام الإخلاص فيها متوفراً .

 

فإن قلت : إن المؤلفة قلوبهم لا يعرفون بإعطائهم المال أنهم من المؤلفة قلوبهم ، بل هم لا يعرفون ذلك ولا يلتفتون إليه لا قبل دفع المال ولا بعده .

ولا يقال لهم أيضاً : إننا نعطيكم من سهم المؤلفة قلوبهم . إذ لو قيل لهم ذلك ، لكان احتمال رفضهم راجحاً ، فيفشل المشروع لا محالة .

 

وهذا بخلاف الفقراء والمساكين والعاملين عليها وابن السبيل ، فإنهم يعلمون بصفتهم هذه قبل دفع المال وبعده. ويمكن أن يقال لهم ذلك .

 

والفرق الآخر : أنهم غير مشترطين بالفقر . وإلا لاندرجوا في سهم الفقراء . ومتقضى إطلاق الآية عدم الاشتراط .

فما هو المعطى الأخلاقي لهذه الفروق ؟؟

أما الفرق الأول : فينبغي أن يكون واضحاً ، لإمكان القول : بأن المعطي ، وهو من يقضي حاجة الآخر ، لا يكون ملتفتاً إلى أن علمه ينطبق عليه معنى سهم المؤلفة قلوبهم . كما قلنا الآن بالتحليل فكيف بالأخذ .

وأما الفرق الثاني : فالفقر أخلاقياً ، هو الافتقار إلى التكامل ، أو إلى الدخول أو الوصول إلى أي درجة أو رتبة لم يكن الفرد قد وصل إليها . سواء كان ذلك في الدرجات الدانية أو الدرجات العالية .

 

أما إذا كان في الدرجات الدانية ، فهو فقير أخلاقياً ، بمعنى كامل أو بقول مطلق . وأما إذا كان في الدرجات العالية ، فهو وإن كان يصدق عليه الغنى أخلاقياً من هذه الناحية ، إلا أنه مفتقر إلى وصوله إلى الدرجة التي بعدها ، وهذا يكفي .

 

صفحة (28)

 

وأما مسألة إطلاق الآية لكون المؤلفة قلوبهم لم يشترطوا بالفقر ، فهو صحيح أخلاقياً ، ومعناه عدم اشتراط التربية بالدرجة المتدنية من الكمال ، بل تشمل الدرجات العليا أيضاً .

 

يبقى سؤال واحد قد يخطر على بال القارئ الكريم ، وهو أن سهم المؤلفة قالوا إنه خاص بالكفار الذين يستمالون إلى الجهاد . في حين لا يمكن أن نسمي المتكاملين كفاراً بأي حال .

 

ويجاب : بأننا قلنا إن هذا السهم يشمل المسلمين أيضاً من حيث تشجيعهم وتقوية عقائدهم . ومن هنا أمكن الشمول أيضاً في المعنى الأخلاقي .

 

بل يمكن القول : إننا نستطيع أن نسمي المتدنين في الكمال كفاراً ونسمي المتكاملين مسلمين . أخذا بقوله تعالى : ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . وكل مشرك كافر . وبقوله تعالى : ﴿ فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً  .

 

الفقرة ( 15 )

 

ومن جملة مستحقي الزكاة : الرقاب . وهم العبيد يشترون ويعتقون ، على تفصيل مذكور في محله .

ولا شك أن العتق في نفسه يحتوي على جانب أخلاقي عالٍ ، سواء كان معوضاً أو غير معوض .

 

فإن لم يكن معوضاً ، بل كان خسارة وتضحية مجانية في سبيل الله ، فهذا واضح . وإن كان معوضاً ، أعني بإزاء ذنب ارتكبه الفرد . بحيث يكون العتق كفارة له ، وسداً لنقصه فهو أيضاً مهم . لأن الثغرة التي أحدثها الذنب أخلاقياً تحتاج إلى سد على أي حال . فالعتق خير سد أخلاقي لكلا قسميه . إلاّ أن العتق مقابل للرق والعبودية ، فلا بد من السؤال عن معنى العبودية أخلاقياً .

 

صفحة (29)

  

تلك العبودية مقابل أي سيطرة وتسلط فكل ما يسيطر عليك فقد ملكك  وكل ما ملكك فقد أصبحت عبداً له ، لا يختلف ذلك في إنسان حاكم أو شهوة قائمة أو مذهب ملتزم أو فكرة مسيطرة .

 

فإن كل ذلك إن كان الباطل ، كان رقية باطلة ، والعتق منها ضروري . وأما العبودية الحقة : فهي مطلوبة ، والعتق منها مرفوض .

 

فمن جملة موارد العبودية الباطلة أو المتدنية ، عدة موارد :

منها : الأهداف الدنيوية للمصالح الشخصية مهما كانت صفتها .

ومنها : صور الإدمان ، والاعتماد على بعض الامور ، كالكحول أو المخدرات أو السكاير أو الشاي بل حتى الاعتياد على مخالطة الناس وممارسة لعبة معينة . أو على كثرة الأكل أو حتى تكرار كلمة معينة تكون عكازة في الكلام . وغير ذلك كثير .

والمهم أخلاقياً ، هو سيطرة فكرة باطلة ، أو مسلك غير صحيح ، أو شك من الشكوك في القلب أو مرض نفسي وغير ذلك كثير .

 

فإن كل ذلك في الحقيقة عدو من الأعداء أو قل هو سلاح العدو الأبر وهو الشيطان . ومن هنا يكون الانعتاق منها لطفاً ونعمة ، ونجاة من مثل هذا العدو .

 

وفي الحقيقة إن العبودية الدنيوية ليست إلاّ لأمرين للأسباب التي ليس لها حقيقة ، وإنما الله هو مسبب الأسباب، وللشهوات المبعدة عن الله والمضلة عن طريق الحق ، ويكون العتق بقطع كل ذلك لا محالة .

 

وقد قال الفقهاء : إن هذا السهم يصرف للعبيد تحت الشدة . والعبودية الأخلاقية المشار إليها لا تكون ذات شدة ما دام الفرد منسجماً معها ومقتنعاً بها . وإنما تبدأ الشدة حين يعرف الفرد ضلالتها وسوءها ويحب التخلص منها والترفعه عنها . مع أنه يجدها غلاً في عنقه وقيداً في يده ، لا يمكنه رفعه ، وإنما حصل ذلك باختياره في زمن جلهه . فيقول لنفسه : جنت على نفسها براقش .. وهو اسم لكلبة . فيبقى ينوح ويتأوه إلى أن يجعل الله له من أمره يسراً .

 

صفحة (30)