كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 

وهذا معنى شامل لكل العلوم العقلية والروحية معاً . ويمكن أن نعبر عنه بإمكان التأثير فيه من حيث التعليم والتربية . وأما إذا لم يكن من المحتمل تأثير التعليم فيه فلا مجال لتعليمه . سواء كان من الناحية العقلية أو الروحية .

 

وذلك على أحد قسمين :

 

القسم الأول : أن يكون الفرد قاصراً على التربية بالمرة كما لو كان قاصر العقل أو سفيهاً . ومن الناحية الأخلاقية يصل الفرد إلى الداء الذي لا دواء له ولا شفاء له من حيث إمكان التوبة والتدارك . فلا يحتمل أن يسمع الموعظة ولا يحتمل أن يوفق إلى التوبة .

 

وهذا ممكن التحقق في مختلف مراتب الكمال . ومع حصوله ينسدّ التكامل ويعجز المعلم عن التوجيه . فلا يبقى معه مجال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

 

القسم الثاني : أن يكون الفرد عارفاً بالأمر الذي أريد أن أقوله له أو المرتبة التي أريد أن أوصله إليها . والحكمة تقول : العارف لا يعرف . وذلك لاستحالة تحصيل الحاصل ، فلا يكون معه مجال للأمر بالمعروف أيضاً.

 

هذا من حيث تعقله بالمأمور . وأما من حيث تعلقه بالآمر . فقد يكون الآمر ناقصاً قاصراً عن التوجيه والتعليم، وإن حسب نفسه أو حسبه الآخرون متكاملاً .

وهذا النقص يكون على مستويات ، أهمها قسمان يقابلان القسمين اللذين ذكرناهما في المأمور :

 

القسم الأول : قصوره من حيث المادة والاطلاع . لوضوح أن من لا يعرف المادة لا يستطيع تعليمها . وهذا ثابت على كل المستويات .

 

القسم الثاني : قصوره من حيث إمكان إيصال المادة إلى الغير . وإن كان الفرد فاهماً عالماً في نفسه . غير ان طريقته في إيصال علمه إلى الآخرين وبيانه لهم ، ومن ثم قدرته على توجيه غيره وتكامله لا تخلو من قصور قليل أو كثير .

 

صفحة (146)

 

وهذا في العلوم العقلية يسمى قصور البيان أو عدم التمكن من التفهيم . وفي العلوم الروحية هي حالة ملازمة لعدم معرفة الداء أو عدم معرفة الدواء ، أقصد داء النفس ودواءها لدى الطالب . ومعه فليس من حقه أن يكون موجهاً أو آمراً بالمعروف أو ناهياً عن المنكر .

 

الفقرة ( 6 )
 

من شرائط الأمر بالمعروف : احتمال امتثال المأمور بالمعروف للآمر وانتهاء المنهي عن المنكر للنهي . فإذا لم يحتمل ذلك ، وعلم الفرد الآمر أن الشخص الفاعل لا يبالي بالأمر أو النهي ، ولا يكترث بهما لم يجب عليه شيء .

وهذا المعنى ناشئ من القسم الأول من قصور المأمور الذي عرفناه في الفقرة السابقة ، حيث يتعذر معه الأمر بالمعروف ، والتوجيه إلى الحق والنهي عن المنكر .

 

كل ما في الأمر أنه من الناحية الأخلاقية فإن هذا القصور ينشأ من أسباب متعددة ، يعتبرها القرآن بطبيعة الحال ، وذلك هو الاختلال في العين والأذن والقلب . وهي الأعضاء الأهم التي يدخل من خلالها العلم والإيمان، لو كانت متوفرة وسليمة .

 

ومع اختلالها يحصل العمه والعمى والصمم من الناحية المعنوية ، وإن كان الجانب الجسدي سليماً . كما قال الله تعالى : ﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها . وقال سبحانه: ﴿ فإنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

 

وقال تعالى: ﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون . فبدون السماع لا يمكن إيصال المعرفة إلى العقل ولا إلى الروح . قال تعالى : ﴿ صم بكم عمي فهم لا يبصرون .

 

صفحة (147)

 

فإذا أضفنا إلى ذلك فكرة فهمها السيد الطباطبائي في الميزان ، حول قوله تعالى : ﴿ وهم عن الاخرة هم غافلون : إن الغفلة لا تكون إلاَّ عن شيء موجود ، وأما إذا كان الإحساس به متعذراً أو مستحيلاً لم تصدق الغفلة على عدم الإحساس به .

 

فكذلك الحال في الرؤية والسماع . إذن ، فكثير من الأمور موجودة ومتحققة وفي الإمكان الإحساس بها ، إلاَّ أن الإحساس المعنوي ، او قل العين المعنوية والأذن المعنوية أو الروحية لما كانت متوقفة عن العمل ، فإن الغفلة تكون صادقة لا محالة .

 

بل الأمر أكثر من ذلك . فإن الغفلة أقل من الصمم والعمى . فإن من له قابلية الإحساس يمكن أن يغفل ، وأما من لا قابلية له عملياً ، فهو الأعمى والأصم الذي لا أمل لرجوع السمع والبصر المعنويين إليه .

 

ومحل الشاهد أن الجميع يسمعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى السماع الطبيعي لصوت المتكلم . إلاَّ أن السامع أو المأمور به قد يمتثله ويطبقه وقد يعصيه .

 

فإن كان سمعه بأذنه المعنوية ، بمعنى أنه اعتبر به واقتنع به ، طبقه وإلاَّ عصاه . فالعمدة هي الأذن المعنوية. فإذا استعمل أذنه المادية دون المعنوية عصى لا محالة طبقاً لقوله تعالى : ﴿ لهم آذان لا يسمعون بها .

 

وفي اللغة الدارجة نعبر عن الطاعة بالسماع . يقال : اسمع كلامي يعني أطعني . وسمعت أمرك يعني أطعته . وكذلك يعبر في القرآن الكريم : ﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون . وليس المراد بالسماع هنا سماع الصوت ولا فهمه من الناحية اللغوية أو العرفية ، لأن كل ذلك حاصل .

 

صفحة (148)