كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 

الفقرة ( 7 )

 

وهذا الشرط وهو احتمال امتثال المأمور ، له مراتب ،لما قلناه من عدم تعيين الأمر والمأمور ومضمون الأمر. وإن أخذه الفقهاء من ناحية الشريعة الإسلامية العامة . إلاَّ اننا من الناحية الأخلاقية ، يمكن أن نأخذه أوسع من ذلك .

 

فإن المأمور دائماً إن وجد مصلحته في الامتثال امتثل ، وإن وجد مصلحته في العصيان عصى . وهذا موجود على مختلف المستويات ، كل ما في الأمر أن هناك فروقاً بين الأوامر الدانية والأوامر العالية . منها :

 

أولاً : إن المأمور في الأوامر الدانية يلحظ مصلحته الدنيوية فقط . دون مصلحته الأخروية . في حين يكون العكس موجوداً في الأوامر العليا .

 

ثانياً : إن المأمور إذا لم يثق بالآمر واحتمل اشتباهه عصاه . وهذا موجود في الأوامر الدانية كلها . وقد يحصل أيضاً في الأوامر العالية .

 

ثالثاً : إن العصيان في الأوامر الدانية هو الأغلب ، أو لا أقل من كون الاحتمال متساوياً . في حين أن العصيان في الأوامر العليا نادر . وأما في الأمور البالغة في الارتفاع فهو معدوم تماماً . والطاعة هي الصفة المسيطرة: ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .

 

وتدخل هنا فكرة لا ينبغي إهمالها في هذا المجال . وهي أن بعض الأوامر يجب عصيانها وليس عندنا أن كل أمر يجب أن يطاع على الإطلاق . بل قد يجب عصيانه حتى لو كان الآمر به مقدساً أو واجب الطاعة .

 

ومثاله في العرف الأوامر التي تكون للمجاملة . كالمضيف حينما يزيد من احترام ضيفه فيقوم له أو يستقبله ماشياً : أو يودعه ماشياً فيقول الضيف : تفضلوا . يعني اجلس من قيامك أو ارجع من مشيتك . فإذا امتثل المامور كان مقتصراً على القليل من احترام صاحبه . ومن ثم سيكون ذلك على خلاف المجاملة . بل يجب عليه أن يستمر في الاحترام حتى لو استلزم العصيان .

 

ونستطيع أن نسمي مثل هذه الأوامر بالأوامر الامتحانية . بمعنى أن قصد الآمر منها هو الامتثال ، بل معرفة مستوى الفرد المامور نفسياً أو عقلياً أو إيمانياً ونحو ذلك . فإن عصى نجح في الامتحان ، يعني أثبت علمياً كون مستواه عالياً ، وإن امتثل أثبت كون مستواه واطئاً .
 

صفحة (149)

 

فالمهم الآن أن نلتفت إلى أن أمثال هذه الأوامر ، ليست مشروطة بهذا الشرط الفقهي الذي نحن بصدده ،  وهو العلم بالامتثال أو احتماله ، بل ينبغي توجيهها حتى مع العلم بالعصيان لأن موردها هو ذلك . وهذا المستوى غير موجود على مستوى الواجبات والمحرمات العامة . ومن هنا لم يكن له في الفقه إي مورد .

 

الفقرة ( 8 )

 

قالوا : ومن جملة شروط الأمر بالمعروف : أن يكون الفاعل مصراً على ترك المعروف أو ارتكاب المنكر . فإذا كانت هناك أمارة على الإقلاع وترك الإصرار لم يجب شيء .

 

أقول : المهم أن تكون إرادته قوية في ترك المعروف أو فعل المنكر . إما بمعنى الاستمرار عليه ، حيناً بعد حين ، وإما بأن يفعله لأول مرة . وعلمنا أن إرادته قوية فيه فيجب ردعه .

 

وهذا واضح على كل المستويات لو حصلت الإرداة القوية للعصيان أو المنكر . ولكن هذا قليل جداً في الأوامر العليا بطبيعة الحال .

 

لكن هذا مما يجب تقييده بأن الإدارة القوية ، ينبغي أن تتعلق بالعصيان ، بما هو عصيان ، لا بمجرد الفعل ، وإن لم يعلم الفاعل بكونه عصياناً . وذلك فيما إذا لم يعلم المأمور بالتكليف الذي عليه ، كما لو لم يكن مأموراً وأردنا توجيه أمر جديد إليه . أو كان عصيانه على وجه الغفلة أو النسيان . أو الجهل ببعض تفاصيل الأمر وقيوده ، بحيث يكون فعله على حسب علمه طاعة وليس عصياناً . ففي مثل ذلك لا يكون هذا الشرط متحققاً .

 

وهذا يحصل كثيراً في الأوامر لمتدنية . وقليلاً في الأوامر العليا . إلاَّ أن هذا القيد في الحقيقة يرجع إلى تقييد هذا الشرط بالشرط الآتي وهو تنجز التكليف في ذمة المأمور . إذ مع جهله أو نسيانه لا يكون التكليف منجزاً عليه .
 

صفحة (150)

 

والمفروض في مقصود الفقهاء هو حصول هذا التقييد ، لأنهم يقولون إنه لا يجب الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر إلاَّ بعد اجتماع الشرائط ، وحصولها جميعاً . ومع حصولها يحصل شرط التقييد لا محالة .

 

من تطبيقاتها أنه من الواضح أننا إذا أردنا توجيه أمر جديد إلى الفرد فلا مورد لاشتراط كونه قوي الإرادة في العصيان . وتوجيه الأمر الجديد ليس متوفراً في الأوامر الدينية العامة بعد عصر الرسالة . ولكنه متوفر في الأوامر العرفية من ناحية ، وفي الأوامر التربوية على مختلف المستويات من ناحية أخرى .

 

الفقرة ( 9 )

 

قال الفقهاء : إن من جملة شرائط الأمر بالمعروف ، أن يكون المعروف والمنكر منجزاً في حق الفاعل أو على الفاعل ، فإن كان الفاعل معذوراً في فعله المنكر أو تركه المعروف ، لاعتقاد أن ما فعله مباح وليس بحرام ، أو أن ما تركه ليس بواجب . وكان معذوراً في ذلك للاشتباه في الموضوع أو الحكم اجتهاداً أو تقليداً ، لم يجب شيء .

 

وكونه (منجزاً ) اصطلاح في علم الأصول ، يقابله عدة أمور لا يكون فيها الأمر منجزاً ، ومن ثم لا يكون الأمر بالمعروف واجباً طبقاً لهذا الشرط . فمن ذلك ما لو كان الفاعل ناسياً أو غافلاً أو جاهلاً قاصراً أو جاهلاً مقصراً ، لا يختلف في ذلك منشأ جهله بين أن يكون عن اجتهاد أو عن تقليد ، الو بدونهما .
 
وهذا الشرط صحيح في الجملة ، ولا يحول دون صحته المطلقة إلاّّ أحد أمرين :

 

الأمر الأول: كون الفرد الفاعل مقصراً في المقدمات، فيكون معاتباً على تقصيره ، وبالنتيجة لا يعذر عن جهله. كما لو كان ناسياً للموضوع عن إهمال وتسامح . أو كان جاهلاً بالحكم عن إهمال أيضاً للتعلم .

 

صفحة (151)