نعم، هناك مداليل تتكرر في الأخبار  ،واوضحها رجوع الإمام أمير المؤمنين (ع) بصفته دابة الأرض التي نص عليها القرآن االكريم .إن هذه المداليل لا ترد عليها هذه المناقشة ، وهي قابلة للإثبات من زاويتها.

المناقشة الثالثة : إن القول بالرجعة يتخذ سمة عقائدية ، فإنه على تقدير صحته يعتبر أحد العقائد – وإن لم يكن من أصولها ـ وليس هو من الفروع والتشريعات على أي حال .

وقد نص علماء الإسلام بأن العقائد لا تثبت بخبر الواحد وإن كان صحيحاً ومتعدداً ،ما لم يبلغ حد التواتر، وقد علمنا أن الأخبار في المداليل التسعة والمعاني الثلاثة غير متواترة ، فلا تكون الأخبار قابلة لإثبات أي منها حتى لو كان المضمون متكرراً في  الأخبار ، ما لم يصل إلى حد التواتر.

وأما المضمون الإجمالي المتواتر ، فقد عرفنا أنه لا ينفع القائلين بالرجعة ،وسنزيد هذا إيضاحاً.

المناقشة الرابعة : إن المعنى الأخير من المعاني الأربعة التي ذكرناها أولاً ، وهو رجوع الأئمة المعصومين (ع) بشكل عكسي، لعله من أكثر أشكال الرجعة تقليدية ورسوخاً في الأذهان المعتقدة بها .وقد وجدنا أنه ليس هناك ما يدل عليها على الإطلاق ولا خبر واحد ضعيف بل ليس هناك أي خبر يدل على رجوع جميع الأئمة المعصومين على التعيين ،ولو بشكل مشوش، إلا بحسب إطلاقات أعم منها بكثير ، ككونهم ممن محض الإيمان محضاً.

بل أن هناك ما يدل على نفي هذا المعنى التقليدي ، كقوله في الخبر: أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي .... فإنه لو صح ذلك لكان أول من يرجع هو الإمام الحسن العسكري (ع) وليس الحسين (ع).

وأما دلالة القرآن الكريم على الرجعة : فإما أن نفهمه على ضوء الأخبار المفسرة له ، وإما أن نفهمه مستقلاً.

أما فهمه على ضوء الأخبار ،وهو باستقلاله غير ظاهر بذلك المعنى ، فهذا لا يعدو قيمة الخبر الدال على هذا الفهم ،ويواجه نفس الإشكالات التي واجهناها في الأخبار .ومن ثم يكون من اللازم الإستقلال في فهم الآيات.

وإذا نظرنا إلى الآيات المذكورة للرجعة ،وجدنا لكل منها معنى مستقلاً لا يمت إلى الرجعة بصلة ، حتى بذلك المعنى الإجمالي العام، أي أنها لا تدل على إحياء بعض الموتى قبل يوم القيامة ،ولا أقل من احتمال ذلك المسقط  لها عن الإستدلال عن الرجعة.

 

صفحة (635)
 

وقد استدل البعض بأكثر من ثلاثين آية في هذا الصدد ،وهو تطرف ومبالغة في الإستدلال بكل تأكيد ،وإنما نود أن نشيرهنا إلى ثلاث لآيات فقط تعتبر هي الأهم بهذا الصدد ، لنرى مقدار دلالتها على الرجعة:

الآية الأولى : قوله تعالى: " قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ، فاعترفنا بذنوبنا ، فهل إلى خروج من سبيل "(1).

وطريقة فهم الرجعة منها :أن الآية تشير إلى حياتين وموتين للناس .ونحن لا نعرف إلا حياة واحداً وموتاً واحد، فأين الثاني منهما؟ وجوابه :إن ذلك إنما يكون في الرجعة فإنها تتضمن حياة ثانية وموتاً بعدها ، فإذا أضفناها إلى الحياة المعاصرة والموت الذي  يليها ، كان المجموع اثنين اثنين.

غير ان هذا الفهم إنما يكون صحيحاً  بأحد أسلوبين:

الأسلوب الأول: أن تصح الأخبار الدالة عليه .وقد عرفنا مناقاشاتها.

الأسلوب الثاني : أن يكون فهماً منحصراً ، بحيث لا يوجد مثله أو أظهر منه في سياق الآية، فإن وجد ذلك ، لم يكن الإعتماد على هذا الفهم.

وهذه الآية تتضمن معاني محتملة غير الرجعة.

المعنى الأول: أن يكون الموت يشير إلى ما قبل الميلاد ، حال وجود النطفة مثلاً.

وأن تكون الحياة الثانية هي الحياة في يوم القيامة.فإذا أضفناها إلى الحياة والموت المعهودين كانا كما قالت الآية الكريمة.

المعنى الثاني: أن يكون المشار إليه. هو حياة وموت آخر يكون في عالم البرزخ أي ان الميت يحيى بعد موته إلى عهد قريب من يوم القامة. ثم يموت بنفخة الصور الأولى حين يصعق من في السموات والأرض، وأما الأحياء ليوم القيامة فهو زمن التكلم وكأنه غير داخل في الحساب .


صفحة (636)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) 40/11
 

إلى معاني أخرى محتملة ، ولعل أكثرها ظهوراً هو المعنى الأول ، دون معنى الرجعة والمعاني الأخرى .فلا تكون الآية دالة على الرجعة بحال.

ولعل أوضح ما يقرب المعنى الأول الرجعة ، هو أن المعنى الأول عام لكل الناس ، والرجعة خاصة ببعضهم، وظهور الاية هو العموم.

الآية الثانية : قوله تعالى : "ويوم نحشر من كل امة فوجاً"(1).

وقد أشار أحد الأخبار التي سمعناها  إلى طريقة فهم الرجعة من هذه الآية .أن الله تعالى يحشر في يوم القيامة الناس جميعاً ، لا أنه يحشر بعضاً ويدع بعضاً : وهو المشار إليه في قوله تعالى " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً"، إذاً فهي لا  تشير إلى حشر يوم القيامة،وإنما تشير إلى حشر آخر هو الحشر في الرجعة.  وإنما سمي حشراً باعتبار أنه يتضمن الحياة بعد الموت لجماعات كثيرة ، مشابهاً من هذه الجهة لحشر يوم القيامة .

ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة باستقلالها ، لن نجدها دالة على الرجعة بحال ولا اقل من احتمال معنى آخر بديل لمعنى الرجعة ، لا تكون الآية دالة عليه أقل من دلالتها على معنى الرجعة.

وهذا المعنى هو الحشر التدريجي .فإن الحشر والحساب في يوم القيامة له أحد أسلوبين محتملين:

الأسلوب الأول: الحشر الدفعي او المجموعي. بمعنى أن يحشر الناس كلهم من أول البشرية إلى آخرها سوية، ويحاسبون على أعمالهم.

وهذا هو المركوز في الأذهان عادة ، غير أنه ليس في القرآن ما يدل عليه ، وترد عليه بعض المناقشات لسنا الآن في صددها.

الأسلوب الثاني : الحشر التدريجي ، جيلاً بعد جيل أو ديناً بعد، أو مجموعة بعدد معين بعد مجموعة وهكذا. وحتى يتم حساب الدفعة الأولى تحشر الدفعة الثانية وهكذا.


صفحة (637)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) 27 /83