وأما قوله : وأكثر الروايات أنه لن يمضي من الدنيا إلا قبل القيامة بأربعين يوماً ... فهذه الروايات سنسمعها، ومؤداها أن الحجة سيرفع – أي يموت – قبل القيامة بأربعين يوم، وسنرى أنه ليس المراد بالحجة شخص الإمام المهدي بل شخص آخر، قد يوجد بعد زمان المهدي (ع) بدهر طويل .

وبعد هذه المناقشات ،وقبل إعطائهم الفهم الكامل لحكم الأولياء الصالحين، لا بد لنا أن نجيب على هذا السؤال الذي يخطر في ذهن القارىء :وهو أننا كيف استطعنا أن نعتبر روايات كافية للإثبات التاريخي ، على حين لم نعتبر روايات الرجعة كافية للإثبات ،مع  أنها أكثرعدداً وأغزر مادة  وأوضح في أذهان العديدين .

وأما من زاوية كفاية روايات الأولياء للإثبات التاريخي ، فهو واضح طبقاً لمنهجنا في هذا التاريخ أنها متكاثرة ومتعاضدة ،وذات مدلول متشابه إلى حد بعيد.

وأما من زاوية معارضتها لأخبار الرجعة ، فهو واضح بعد فشل الوجهين اللذين ذكرهما المجلسي للجمع بين الأخبار، إذ يدور الأمر عندئذ بين أن يكون الحكم بعد المهدي (ع) موكولاً إلى المعصومين (ع) أو إلى الأولياء الصالحين.

ونحن حين نجد أن أخبار الرجعة غير قابلة للإثبات، كما عرفنا، ونجد أن أخبار الأولياء قابلة للإثبات. كما سمعنا ، لا محيص لنا على الأخذ بمدلول أخبار الأولياء بطبيعة الحال.

وبالرغم من أن مجرد ذلك كاف في السير البرهاني ،إلا أننا أن نوضح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً.

إن نقطة القوة الرئيسية في أخبار الأولياء المفقودة في أخبار الرجعة ، هي أن أخبار الأولياء ،ذات مضمون مشترك تتسالم عليه، بخلاف أخبار الرجعة، فإنها ذات عشرة مداليل على الأقل ، ليس لكل مدلول إلا عدد ضئيل من الأخبار قد لا يزيد أحياناً على  خبر واحد.

ومن هنا نقول لمن يفضل أخبار الرجعة : ها أنت تفضل أخباراً منها ذات مدلول معين ،كرجوع الإمام الحسين (ع) مثلاً .أو تفضل تقديم مجموع أخبار الرجعة.

فإن رأيت تفضيل  قسم معين من أخبار من أخبار الرجعة ،فهي لا شك أقل عدداً وأضعف سنداً من أخبار الأولياء ، بل وأقل شهرة أيضاً . وكل قسم معين منها يصدق عليه ذلك بكل تأكيد ، غير ما دل على رجوع الإمام علي بن  أبي طالب (ع) الذي سوف نشير إليه.

 

صفحة (644)
 

وإن رأيت تفضيل مجموع  أخبار الرجعة على أخبار الأولياء ،إذاً ،فستصبح أخبار الرجعة بهذا النظر متعارضة ومختلفة المدلول كما عرفنا ،غير ذلك المدلول العام الإجمالي الذي برهنا على انطباقه على خروج دابة الأرض التي نطق بخروجها القرآن الكريم.وهو – بمنطوق الأخبار ـ يعني خروج علي أمير المؤمنين (ع) ، وهو بعيد عن أي مفهوم تقيلدي للرجعة ، بل هو ليس من الرجعة في شيء ، فإن مفهوم دابة الأرض غير مفهوم الرجعة عندهم.

وهذا المفهوم لا ينافي حكم الأولياء الصالحين ولا يعارض الأخبار الدالة عليه ،وذلك لعدة أمور ،نشير إلى أمرين منها:

الأمر الأول : أن خروج دابة الأرض غير محدد بتاريخ ،لا في القرآن الكريم ولا في السنة الشريفة ، ومعه فقد يحدث بعد حكم الأولياء الصالحين بمدة طويلة.

الأمر الثاني: إن دابة الأرض سوف لن تأتي لتمارس الحكم  الأعلى في الدولة العالمية العادلة ،كما يستشعر من القرآن وتصرح به الأخبار ، بل تأتي من أجل إعطاء الأفراد حسابهم الكامل فتعين منزلة كل فرد ودرجة تطبيقه للمنهج العادل المطلوب منه ،ولعلنا نوضح ذلك فيما بعد.

وإذا تم ذلك ، لم يكن خروج الدابة منافياً مع حكم الأولياء حتى لو خرجت في زمن حكمهم ،لأن وظيفتهم في المجتمع غير وظيفتها.

 وبعد ترجيح روايات حكم الأولياء الصالحين ، ينبغي لنا أن نقدم لها فهماً متكاملاً ملحقاً بالتسلسل الفكري الذي سرنا عليه في هذا الكتاب. ثم نعقبه بدراً ومناقشة بعض الإشكالات التي قد تخطر في الذهن في هذا الصدد .

إن الإمام المهدي (ع) لن يهمل أمر الأمة الباقية بعده ،لا لمجرد أن لا  تبقى رهن الإنحلال والضياع ،وإن كان هذا صحيحاً كل الصحة، بل لأكثر من ذلك، وهو ماقلناه من أن إحدى الوظائف الرئيسة للمهدي (ع) بعد ظهوره هو تأسيس القواعد العامة المركزة والبعيدة الأمد لتربية البشرية في الخط الطويل ، تربية تدريجية لكي تصل إلى المجتمع المعصوم .وهذه التربية لا يمكن أن يأخذ بزمام تطبيقها إلا الإنسان الصالح الكامل حين يصبح رئيساً للدولة العادلة ،ومثل هذا الرجل لا يمكن معرفته لأحد غير الإمام المهدي نفسه ولعله يوليه التربية الخاصة التي تؤهله لهذه المهمة الجليلة .وأما احتمال تعيينه بالإنتخاب فهو غير وارد على ما سنقول.
 

صفحة (645)
 

ومن هنا سيقوم الإمام (ع)  بتعيين ولي عهده أو خليفته ،خلال حياته وربما في العام الأخير ، ليكون هو الرئيس ألأعلى للدولة العالمية العادلة بعده والحاكم الاول لفترة حكم (الأولياء الصالحين).

وبالرغم من أن هذا الحاكم قد يكون هو أفضل من الأحد عشر الآتين بعده باعتبار أنه نتيجة تربية الإمام المهدي (ع) شخصياً والمعاصر لأقواله وأفعاله وأساليبه ، بخلاف ما سيأتي بعده من الحاكمين .بالرغم من ذلك فإنه سيفرق فرقاً كبيراً عن المهدي (ع ) نفسه، على حد لا يصدق " أنه لا خير في الحياة بعده".

والسر في ذلك- على ما سيبدو يعود إلى أمرين رئيسين :

الأمر الأول: ما سبق أن عرفناه من الفرق الشخصي والثقافي والنفسي بين الإمام المهدي (ع) وخليفته،الأمر الذي ينتج اختلافاً واضحاً في التصرفات بينهما.

الأمر الثاني: راجع إلى الأمة نفسها أو البشرية كلها بتعبير آخر من حيث أن المجتمع مهما كان قد سار بخطوات كبيرة نحو الأمام، في السعادة والعدالة والتكامل ،إلا أنه لم يصل إلى درجة العصمة بأي شكل من أشكالها التي سنشير إليها، وبقيت هناك في أطراف العالم مجتمعات متخلفة عن الركب العام ، لوجود انخفاض مدني أو حضاري جديد سابق فيها ،منعها أن تكون – مهماارتفعت بجهود الإمام المهدي (ع) – مواكبة للإتجاه العالمي العادل فيه.

إذاً فستكون التركة العالمية ثقيلة جداً ،وتخلفات عدد من الأفراد والمجتمعات عن تطبيق العدل ، بعد ذهاب القائد الأعلى ،محتملة جداً ... وعدم استيعاب الكثيرين من وعيهم العقائدي لضرورة التجاوب الكلي مع الرئيس الجديد ،احتمال وارد تماماً ، وخاصة وأن الأمر الأول من هذين الأمرين سيعيشه العالم يومئذ بكل وضوح.

نعم ،لا شك أن الإمام المهدي (ع) قبل فاته قد أكد وشدد ، بإعلانات عالمية متكررة على ضرورة إطاعة خليفتة وعلى ترسيخ (حكم الأولياء الصالحين) في الأذهان ترسيخاً عميقاً ،إلا أن البشرية حيث لا تكون بالغة درجة الكمال المطلوب ’فإنها ستكون مظنة العصيان والتمرد في اكثر من مجال.

ولكن وجود هذه المصاعب لا يعني الفشل بحال، بعد القواعد التربوية التي تلقاها هذا الحاكم عن الإمام المهي بكل تفصيل. إن الدولة ستبقى مهيبة ومحبوبة للجماهير على العموم وستبقى تمارس التربية المركز وباستمرار ،تماماً كما كانت عليه في عصر الإمام المهدي أخذاً بالمنهج المهدوي العام.


صفحة (646)